تداول الأسهم السعودية

• مؤشر (تاسي) الأثنين • إغلاق 12,772.46 نقطة • ارتفاع 10.03 نقطة • ارتفاع 115 شركة • انخفاض 113 شركة • قيمة التداول 11.0 مليار • كمية التداول 672 مليون سهم
النتائج 1 إلى 7 من 7
  1. #1
    المشرف العام الصورة الرمزية محمد بن سعد
    تاريخ التسجيل
    Apr 2008
    الدولة
    السعودية، الرياض
    العمر
    71
    المشاركات
    10,545
    مقالات المدونة
    2
    معدل تقييم المستوى
    10

    مؤكد نبي الله موسى عليه السلام 1 - 2

    محمد بن سعد (درة) : هو (عليهم السلام) موسى بن عمران، شقيقه الأكبر هارون (عليه السلام)، ويُقال بأن أمه (يوحنذ) أو (أياذخت)، ولد وعاش في مصر أيام (الفراعنة)، هو نبي عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، و نسبه: (في العهد القديم) موسى بن عمران بن يصهر قاهث بن عازر بن لاوى بن يعقوب (عليهم السلام) بن إسحاق (عليهم السلام) بن إبراهيم (عليهم السلام) بن تارح (وهو آزر) بن ناحور بن ساروغ بن راغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح (عليه السلام).



    بني إسرائيل: أثناء وزارة يوسف عليه السلام على مصر، تحولت مصر إلى توحيد الله سبحانه، وبعد وفاة يوسف عادت مصر إلى الشرك، واختلط أبناء يعقوب وأبناء إسرائيل بمجتمعات مصر، وتكاثر أبناء إسرائيل وشغلوا العديد من الحرف، وبقي القليل على (التوحيد) من بني إسرائيل.

    بعدها حكم مصر ملك جبار عبده المصريون، يعرف بلقب (فرعون) استعبد قومه وطغى عليهم، قسّم رعيته وخذل طائفة منها (هم) بنو إسرائيل، لاحظ الملك أن (بني إسرائيل) تكاثروا ثم بدءوا يمـلكون، فبدأ يظلم كل من يرجع نسبه إلى هذه الطائفة، كانوا بمصر منذ فترة وزارة يوسف عليها.

    نبأ مولد موسى عليه السلام: حسب (العهد القديم) كان فرعون (ملك جبار) ورأى في منامه نارا تخرج من بني إسرائيل تحرقه، وفسرها الكهنة أن رجلا سيولد لليهود (يقضي) على ملك فرعون. الرواية الأخرى: رأى فرعون كأن نارا أقبلت من المقدس، فأحرقت كل مصر إلا بيوت بني إسرائيل، فاستيقظ فزعا، وفسّر الكهنة قرب مولد (نبي) من بني إسرائيل ينهي حكم فرعون، ففزع فرعون وأصدر أمره بقتل جميع المواليد الذكور، وبعد بدايات تنفيذ الإعدام بوقت، خاف أهل مصر من موت الكبار بآجالهم وقتل الصغار، كونه سيؤدي إلى ضعف وفناء مصر. فقالوا: ستضعف مصر لقلة أيديها العاملة، ورأوا: ذبح الذكور عام وتركهم عام. فناسب هذا الحل (فرعون) وجرى تنفيذه.

    مولد موسى عليه السلام: ولدت أم موسى أولا بـ(هارون) في عام وقف القتل، وفي عام قتل الغلمان ولدت بـ(موسى) عليه السلام، وتحملت أم موسى خوفاً عظيما على مستقبل موسى، وراحت ترضعه في السر وهي خائفة عليه من القتل، وجاءت ليلة لأم موسى أوحى الله إليها أن تصنع صندوق، وان ترضع موسى ثم تضعه فيه، وأن تلقيه في النهر، خافت أم موسى على ابنها من جنود فرعون، فوضعته بالصندوق في النهر، حمل النهر الصندوق إلى قصر فرعون، فالتقطته زوجة فرعون واتخذته ابن لها،

    أم موسى: كان قلبها يعصره الألم وهي ترمي ابنها في النيل، كونها تعلم أن الله عزّ وجل ارحم الراحمين، وهو ربه ورب النيل، وعندما لامس الصندوق مياه النيل أمر الله الموج أن يكون هادئ لهذا الرضيع الذي سيكون نبيا، يُقال: مثل ما أصدر الله تعالى أمره للنار أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم، كذلك أصدر أمره للنيل أن يحمل موسى، فحملته الأمواج إلى قصر فرعون، وهناك أسلمه الموج للشاطئ القصر.

    في الصباح، خرجت زوجة فرعون (آسيا) تتمشى في حديقة القصر، وكانت زوجة فرعون تختلف كثيرا عن زوجها. فقد كان فرعون كافرا وكانت هي مؤمنة. كان هو قاسيا وكانت هي رحيمة. كان جبارا وكانت رقيقة وطيبة. ولكنها كانت تفتقد الذرية، لم تكن تلد. وكانت تتمنى أن يكون عندها ولد.

    وعندما ذهبن الجواري ليملأن الجرار من النهر، وجدن الصندوق، فحملنه كما هو إلى زوجة فرعون. فأمرتهن أن يفتحنه، ففتحنه. فرأت موسى بداخله، فأحست بحبه في قلبها. نعم، لقد ألقى الله في قلبها محبته، فحملته من الصندوق. فاستيقظ موسى وبدأ يـبــكي. كان يتضور جوعاً، كان يحتاج إلى رضعه الصباح فبكى.

    فجاءت (آسيا) إلى فرعون، وهي تحمله بين يدها. فسأل من أين جاء هذا الرضيع؟ فأخبروه بأمر الصندوق. فقال بقلب لا يعرف الرحمة: لابد أنه أحد أطفال بني إسرائيل. أليس المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟ فذكّرت (آسيا) امرأة فرعون زوجها بعدم قدرتهم على الإنجاب، وطلبت منه أن يسمح لها بتربيته. فسمح لها بذلك.

    تحريم المراضع: عاد موسى للبكاء من الجوع. فأمرت بإحضار المراضع. فحضرت إحداهن من القصر، وأخذت موسى لترضعه، فرفض أن يرضع منها. فجيء بمرضعة ثانية وثالثة، وموسى يبكي ولا يريد أن يرضع. فاحتارت (آسيا) زوجة فرعون ولم تكن تعرف ماذا تفعل.

    لم تكن زوجة فرعون هي وحدها الحزينة الباكية بسبب رفض موسى لجميع المراضع. في الجانب الآخر، لقد كانت أم موسى هي الأخرى حزينة باكية. لم تكد ترمي موسى في النيل حتى أحست أنها ترمي قلبها معه. غاب الصندوق في مياه النيل واختفت أخباره. وجاء الصباح على أم موسى فإذا قلبها فارغ يذوب حزنا على ابنها، وكادت تذهب إلى قصر فرعون لتبلغهم نبأ ابنها وليكن ما يكون. لولا أن الله تعالى ربط على قلبها وملأه بالسلام، فهدأت واستكانت وتركت أمر ابنها لله جل وتعالى. كل ما في الأمر أنها قالت لأخته: اذهبي بهدوء إلى المدينة وحاولي أن تعرفي ماذا حدث لموسى.

    وذهبت أخت موسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر فرعون، وسمعت بالقصة الكاملة. رأت موسى من بعيد وسمعت بكاءه، ورأتهم حائرين لا يعرفون كيف يرضعونه، سمعت أنه يرفض كل المراضع. وقالت أخت موسى لحرس فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يرضعونه ويكفلونه ويهتمون بأمره ويخدمونه؟

    ففرحت زوجة فرعون كثيرا لهذا الأمر، وطلبت منها أن تحضر المرضعة. وعادت أخت موسى وأحضرت أمها (أم موسى). وأرضعته أمه فرضع. تهللت زوجة فرعون وقالت: خذيه حتى تنتهي فترة رضاعته وأعيديه إلينا، وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له. وهكذا رد الله تعالى موسى لأمه كي تقر عينها ويهدأ قلبها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق وأن كلماته سبحانه تنفذ رغم أي شيء.

    نشأة موسى في بيت فرعون: أتمت أم موسى رضاعته وسلمته لبيت فرعون. كان موضع حب الجميع. كان لا يراه أحد إلا أحبه. وها هو ذا في أعظم قصور الدنيا يتربى بحفظ الله وعنايته. بدأت تربية موسى في بيت فرعون. وكان هذا البيت يضم أعظم المربين والمدرسين في ذلك الوقت. كانت مصر أيامها أعظم دولة في الأرض. وكان فرعون أقوى ملك في الأرض، ومن الطبيعي أن يضم قصره أعظم المدربين والمثقفين والمربين في الأرض. وهكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يتربى موسى أعظم تربية وأن يتعهده أعظم المدرسين، وأن يتم هذا كله في بيت عدوه الذي سيصطدم به فيما بعد تنفيذا لمشيئة الخالق.

    خروج موسى من مصر: كبر موسى في بيت فرعون. كان موسى يعلم أنه ليس ابنا لفرعون، إنما هو واحد من بني إسرائيل. وكان يرى كيف يضطهد رجال فرعون وأتباعه بني إسرائيل. وكبر موسى وبلغ أشده. (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا)

    وراح يتمشى فيها، فوجد رجلا من أتباع فرعون وهو يقتتل مع رجل من بني إسرائيل، واستغاث به الرجل الضعيف فتدخل موسى وأزاح بيده الرجل الظالم فقتله. كان موسى قويا جدا، ولم يكن يقصد قتل الظالم، إنما أراد إزاحته فقط، لكن ضربته هذه قتلته. ففوجئ موسى به وقد مات وقال لنفسه: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ).

    ودعا موسى ربه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)، وغفر الله تعالى له: (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، أصبح موسى: (فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)، كان هذا حال موسى، حال إنسان مطارد، فهو خائف، يتوقع الشر في كل خطوة، وهو مترقب، يلتفت لأوهى الحركات وأخفاها.

    ووعد موسى بأن لا يكون ظهيرا للمجرمين. لن يتدخل في المشاجرات بين المجرمين والمشاغبين ليدافع عن أحد من قومه. وفوجئ موسى أثناء سيره بنفس الرجل الذي أنقذه بالأمس وهو يناديه ويستصرخه اليوم. كان الرجل مشتبكا في عراك مع أحد المصريين. وأدرك موسى بأن هذا الإسرائيلي مشاغب. أدرك أنه من هواة المشاجرات. وصرخ موسى في الإسرائيلي يعنفه قائلا:
    (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ)

    قال موسى كلمته واندفع نحوهما يريد البطش بالمصري. واعتقد الإسرائيلي أن موسى سيبطش به هو. دفعه الخوف من موسى إلى استرحامه صارخا، وذكّره بالمصري الذي قتله بالأمس. فتوقف موسى، سكت عنه الغضب وتذكر ما فعله بالأمس، وكيف استغفر وتاب ووعد ألا يكون نصيرا للمجرمين. استدار موسى عائدا ومضى وهو يستغفر ربه.

    وأدرك المصري الذي كان يتشاجر مع الإسرائيلي أن موسى هو قاتل المصري الذي عثروا على جثته أمس. ولم يكن أحد من المصريين يعلم من القاتل. فنشر هذا المصري الخبر في أرجاء المدينة. وانكشف سر موسى وظهر أمره. وجاء رجل مصري مؤمن من أقصى المدينة مسرعا. ونصح موسى بالخروج من مصر، لأن المصريين ينوون قلته.

    لم يذكر القرآن الكريم اسم الرجل الذي جاء يحذر موسى. ونرجح أنه كان رجلا مصريا من ذوي الأهمية، فقد اطلع على مؤامرة تحاك لموسى من مستويات عليا، ولو كان شخصية عادية لما عرف. يعرف الرجل أن موسى لم يكن يستحق القتل على ذنبه بالأمس. لقد قتل الرجل خطأ. فيجب أن تكون عقوبته السجن على أقصى تقدير.

    لكن رؤساء القوم وعليتهم، الذين يـبدوا أنهم كانوا يكرهون موسى لأنه من بني إسرائيل، ولأنه نجى من العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر، وجدوا هذه الفرصة مناسبة للتخلص من موسى، فهو قاتل المصري، لذا فهو يستحق القتل.

    خرج موسى من مصر على الفور. خائفا يتلفت ويتسمع ويترقب. دعاء لله في قلبه: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وكان القوم ظالمين حقا. ألا يريدون تطبيق عقوبة القتل العمد عليه، وهو لم يفعل شيئا أكثر من أنه مد يده وأزاح رجلا فقتله خطأ؟

    خرج موسى من مصر على عجل. لم يذهب إلى قصر فرعون ولم يغير ملابسه ولم يأخذ طعاما للطريق ولم يعد للسفر عدته. لم يكن معه دابة تحمله على ظهرها وتوصله. ولم يكن في قافلة. إنما خرج بمجرد أن جاءه الرجل المؤمن وحذره من فرعون ونصحه أن يخرج. اختار طريقا غير مطروق وسلكه. دخل في الصحراء مباشرة واتجه إلى حيث قدرت له العناية الإلهية أن يتجه. لم يكن موسى يسير قاصدا مكانا معينا. هذه أول مرة يخرج فيها ويعبر الصحراء وحده.

    موسى في مدين: ظل يسير بنفسية المطارد حتى وصل إلى مكان. كان هذا المكان هو مدين. جلس يرتاح عند بئر يسقي الناس منها دوابهم. وكان خائفا طوال الوقت أن يرسل فرعون من وراءه من يقبض عليه.

    لم يكد موسى يصل إلى مدين حتى ألقى بنفسه تحت شجرة واستراح. نال منه الجوع والتعب، وسقطت نعله بعد أن ذابت من مشقة السير على الرمال والصخور والتراب. لم تكن معه نقود لشراء نعل جديدة. ولم تكن معه نقود لشراء طعام أو شراب. لاحظ موسى جماعة من الرعاة يسقون غنمهم، ووجد امرأتين تكفان غنمهما أن يختلطا بغنم القوم، أحس موسى بما يشبه الإلهام أن الفتاتين في حاجة إلى المساعدة. تقدم منهما وسأل هل يستطيع أن يساعدهما في شيء.



    قالت إحداهما بأنهما تنتظر أن ينتهي الرعاة من سقي غنمهم لنسقي. فسأل موسى: ولماذا لا تسقيان؟ فقالت الأخرى: لا نستطيع أن نزاحم الرجال. اندهش موسى لأنهما ترعيان الغنم. المفروض أن يرعى الرجال الأغنام. هذه مهمة شاقة ومتعبة وتحتاج إلى اليقظة. فسأل موسى: لماذا ترعيان الغنم؟ فقالت واحدة منهما: أبونا شيخ كبير لا تساعده صحته على الخروج كل يوم للرعي. فقال موسى: سأسقي لكما.

    سار موسى نحو الماء، وسقى لهم الغنم مع بقية الرعاة. وفي رواية أن الرعاة قد وضعوا على فم البئر بعد أن انتهوا منها صخرة ضخمة لا يستطيع أن يحركها غير عدد من الرجال. فرفع موسى الصخرة وحده. وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها، وتركهما وعاد يجلس تحت ظل الشجرة. وتذكر لحظتها الله وناداه في قلبه:
    (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).

    عادت الفتاتان إلى أبيهما الشيخ. سأل الأب: عدتما اليوم سريعا على غير العادة؟ قالت إحداهما: تقابلنا مع رجل كريم سقى لنا الغنم. فقال الأب لابنته: اذهبي إليه وقولي له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) ليعطيك (أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا). فذهبت واحدة من الفتاتين إلى موسى، ووقفت أمامه وأبلغته رسالة أبيها. فنهض موسى وبصره في الأرض. إنه لم يسق لهما الغنم ليأخذ منهن أجرا، وإنما ساعدهما لوجه الله، غير أنه أحس في داخله أن الله هو الذي يوجه قدميه فنهض. سارت البنت أمامه. هبت الرياح فضربت ثوبها فخفض موسى بصره حياء وقال لها: سأسير أنا أمامك ونبهيني أنت إلى الطريق.

    وصلا إلى الشيخ. قال (بعض المفسرين) إن هذا الشيخ هو النبي شعيب. عمّر طويلا بعد موت قومه. وقيل إنه ابن أخي شعيب. وقيل ابن عمه، وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب الذين آمنوا به. إلا أنه شيخا صالحا.

    قدم له الشيخ الطعام وسأله من أين قدم وإلى أين سيذهب؟ حدثه موسى عن قصته. قال الشيخ: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). هذه البلاد لا تتبع مصر، ولن يصلوا إليك هنا. اطمأن موسى ونهض لينصرف.

    قالت ابنة الشيخ لأبيها همسا: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، سألها الأب: كيف عرفت أنه قوي؟ قالت: رفع وحده صخرة لا يرفعها غير عدد رجال. سألها: وكيف عرفت أنه أمين؟ قالت: رفض أن يسير خلفي وسار أمامي حتى لا ينظر إلي وأنا أمشي. وطوال الوقت الذي كنت أكلمه فيه كان يضع عينيه في الأرض حياء وأدبا.

    وعاد الشيخ لموسى وقال له: أريد يا موسى أن أزوجك إحدى ابنتي على أن تعمل في رعي الغنم عندي ثماني سنوات، فإن أتممت عشر سنوات، فمن كرمك، لا أريد أن أتعبك،
    (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)، قال موسى: هذا اتفاق بيني وبينك. والله شاهد على اتفاقنا. سواء قضيت السنوات الثمانية، أو العشر سنوات فأنا حر بعدها في الذهاب.

    يخوض الكثيرون في تيه من الأقاصيص والروايات، حول أي ابنتي الشيخ تزوج، وأي المدتين قضى. والثابت أن موسى تزوج إحدى ابنتي الشيخ. لا نعرف أيهما، ولا اسمها. وهذه الأمور سكت عنها السياق القرآني. إلا أنه استنادا إلى طبيعة موسى وكرمه ونبوته وكونه من أولي العزم. نرى أنه قضى الأجل الأكبر. وهذا ما يؤكده حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وهكذا عاش موسى يخدم الشيخ عشر سنوات كاملة. هذا ويُقال بأن موسى تزوج من ابنة (شعيب) عليه السلام، وقِيل اسمها (صفورا).

    موسى ورعي الغنم: وكان عمل موسى ينحصر في الخروج مع الفجر كل يوم لرعي الأغنام والسقاية لها. والقدرة الإلهية نقلت خطى موسى، منذ أن كان ساعة مولده، ومنذ التقاط آل فرعون له. وتعلق زوجة فرعون به، ونشأته في كنف عدوّه. وقتله نفسا، وتحذير الرجل المؤمن له من آل فرعون، وخروجه من مصر. ووحدته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وحيد مطارد من غير زاد ولا استعداد. إلى اجتماعه بالشيخ الكبير ليأجره سنوات عشر. وإلى وقت التكليف بالأمانة.

    خط طويل من الرعاية والتوجيه، قبل النداء والتكليف: تجربة رعاية وحب ودلال، تجربة اندفاع مع غيظ حبيس، تجربة ندم واستغفار، تجربة خوف ومطاردة، تجربة غربة ووحدة وجوع، تجربة خدمة الغنم ورعيها بعد حياة القصور. وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من تجارب صغيرة، ومشاعر وخواطر، وإدراك ومعرفة. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.

    الرسالة تكليف عظيم وشاق، يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة، إلى جانب وحي الله وتوجيهه. ورسالة موسى تكليف عظيم، فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أقوى ملوك الأرض في زمانه، وأشدهم استعلاء في الأرض. وهو مرسل لإنقاذ قوم تجرعوا مرارة كؤوس الذل. وإنقاذ مثل هؤلاء قوم عمل شاق.

    جاءت تجربة العشر سنوات لتفصل بين (حياة القصور) التي نشأ فيها موسى و(حياة الجهد الشاق) في الدعوة وتكاليفها العسيرة. وبعكس رفاهية القصور، فالرسالة معاناة لجماهير من الناس: غني وفقير، مهذب وخشن، قوي وضعيف. وللرسالة تكاليفها من مشقة التجرد والتدرب، قلب يروضه واقع الخشونة والحرمان والمشقة.

    فلما استكملت نفس موسى تجاربها، وأكملت مرانها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغرة. قادت القدرة الإلهية خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه، ومجال عمله. وهكذا نرى كيف صُنِعَ موسى على عين الله، وكيف تم إعداده لتلقي التكليف.

    عودة موسى لمصر: ترى، أي خاطر راود موسى؟ عودته إلى مصر، بعد انقضاء الأجل، بعد أن خرج منها خائفا يترقب، وأنساه الخطر الذي ينتظره، وقد قتل فيها نفسا، وهناك تآمر فرعون مع الملأ من قومه ليقتلوه.

    إنها قدرة الله التي تنقل خطاه كلها. لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة والوطن. وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها.

    خرج موسى مع أهله وسار، اختفى القمر وراء أسراب من السحاب الكثيف، وساد الظلام، واشتد البرق والرعد، وأمطرت السماء وزادت قوة البرد والظلام، وتاه موسى أثناء سيره، ووقف موسى حائرا يرتعش من البرد وسط أهله، ثم رفع رأسه فشاهد نارا عظيمة تشتعل عن بعد، فامتلأ قلبه بالفرح فجأة. قال لأهله: أني رأيت نارا هناك. أمرهم أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب إلى النار لعله يأتيهم منها بخبر، أو يجد أحدا يدلّه ويهديه إلى الطريق، أو يأتي بشعلة من النار لتدفئتهم.

    وتحرك موسى نحو النار. سار موسى مسرعا ليدفئ نفسه. يده اليمنى تمسك عصاه. جسده مبلل من المطر. ظل يسير حتى وصل إلى واد يسمونه (طوى). لاحظ شيئا غريبا في هذا الوادي. لم يكن هناك برد ولا رياح. ثمة صمت عظيم ساكن. واقترب موسى من النار. لم يكد يقترب منها حتى نودي: أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

    نظر موسى في النار فوجد شجرة خضراء. كلما زاد تأجج النار زادت خضرة الشجرة. والمفروض أن تتفحم الشجرة وهي تحترق. لكن النار تزيد واللون الأخضر يزيد. كانت الشجرة في جبل غربي عن يمينه، وكان الوادي الذي يقف فيه هو وادي (طوى). بعدها، ارتجت الأرض خشوعاً ورهبة، والله عز وجل ينادي: (يَا مُوسَى)، فأجاب موسى: نعم، قال الله عز وجل: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ)،، ازداد ارتعاش موسى وقال: نعم يا رب، قال الله عز وجل: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)،، انحنى موسى راكعا وجسده كله ينتفض وخلع نعليه، فقال الله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) طه

    زاد انتفاض موسى وهو يتلقى الوحي الإلهي ويستمع إلى ربه وهو يخاطبه، قال الله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)، تزايدت دهشة موسى إن الله تعالى هو الذي يخاطبه، يسأله الله عما بيده وهو يعرف بأنها (عصاه)، قال موسى: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى). قال الله تعالى: (أَلْقِهَا يَا مُوسَى)، رمى موسى العصا ودهشته متزايدة، وفوجئ بأن العصا تتحول إلى (حية) كبيرة، حية سريعة الحركة أقيضت ذعر موسى، فاستدار موسى فزعاً هارباً، فناداه الله بقوله: (يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)، عاد موسى لمكانه والعصا (حية) تتحرك، فقال الله تعالى: (خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى)، مد يده إلى (الحية) وهي ترتعش، ولم يكد يلمسها حتى تحولت في يده إلى (عصا)، وعاد الأمر الإلهي يصدر له: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ)، وضع موسى يده في جيبه، وأخرجها، فإذا هي تتلألأ كضوء القمر، زاد خوف موسى فوضع يده على قلبه كما أمره الله فتلاشى الخوف، فاطمأن موسى بعد هاتين المعجزتين: (العصا) و(اليد).

    أمره اللهُ أن يذهب إلى فرعون لدعوته إلى توحيد الله، وأن يخرج بني إسرائيل من مصر فتخوّف موسى، كونه قد قتل منهم نفسا، هذا إلى جانب خوفه من فرعون، فتوسل إلى الله وأبتهل بأن يرسل معه أخاه هارون، فطمأن الله موسى أنه سيكون (جلّ وتعالى) معهما يسمع ويرى وبأنه هو الغالب، وأن فرعون رغم قسوته وتجبره لن يمسهما بسوء، دعا موسى وابتهل إلى الله بأن: يشرح له صدره وييسر أمره ويعينه في القول، ثم رجع موسى لأهله بعد أن اصطفاء الله واختاره رسولا إلى فرعون.

    عوة موسى عليه السلام لمصر: بدأت رحلة موسى بأهله إلى مصر، أفكار عبرت ذهن موسى أثناء مشيه لا يعلمها إلا الله، وبداية الانتقال من فترة التأمل إلى أداء الرسالة، وانطوت أيام الرحلة وجاء وقت أداء الأمانة، تقارب وقت مواجهة بطش أعظم الجبابرة (فرعون)، اقترب وقت لقاء طاغية مصر، واليقين بأنه لن يسلمه بني إسرائيل بغير صراع، كان يعلم أنه سيقف من دعوته موقف الإنكار والكبرياء.

    لقد أمره الله تعالى أن يذهب إلى فرعون، أن يدعوه برفق إلى وحدانية الله، ودعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له، أوحى الله لموسى أن فرعون لن يؤمن، ولن يدع موسى وشأنه، وليركز على إطلاق سراح بني إسرائيل، وكف تعذيب فرعون لهم، قال تعالى لموسى وهارون:
    (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ)

    مهمة محددة سوف تصطدم بعقبات مختلفة، تعذيب فرعون لبني إسرائيل واستعبادهم، يستعبدهم ويستبيح نسائهم ويذبح أبنائهم، ويكلفهم بأعمال ما لا حاجة لهم فيها، ويصرّفهم كما لو كانوا ملكه موروث له. فهذا نظام مصر الإقطاعي، بنيان أساسه استعباد بني إسرائيل، واستغلال عملهم وجهدهم وطاقاتهم لفرعون، فهل سيفرط فرعون في هذا البناء ببساطة ويسر، هكذا كانت أفكار موسى تختصر مشقة الطريق، ورفع الستار عن مشهد المواجهة.

    وفاته وقبره: توفي موسى عليه السلام على جبل (نيبو) قرب (مأدبا) بالأردن - حسب (العهد القديم) نظر إلى الأرض المقدسة للمرة الأخيرة - من جبل (نيبو) أفضل الأماكن المرتفعة للمراقبة ومات، يوجد بقمة الجبل كنيسة قديمة يُعتقد أن النبي موسى دفن فيها

    لقاء فرعون: كانت أفكار موسى تختصر مشقة الطريق، رفع الستار عن مشهد المواجهة، كل ما يريده موسى أن يرسل معه بني إسرائيل، دعوة أن يسلم لرب العالمين، طلب من فرعون طلب كبير، كان آخر عهد فرعون بموسى منذ أكثر من عشر سنين، منذ ترعرع في قصر آل فرعون، ومنذ قتله للقبطي نجدة للإسرائيلي، وهروب موسى من مصر، يأتي موسى إلى فرعون ويواجهه بأن يسلم لرب العالمين، عجب فرعون من موسى بهذه المواجهة، واجه موسى فرعون (باللين) كما علمه الله، وحدثه عن عبادة الله ورحمته وجنته وقدرته، حديث إنساني عن تقوى الله، حديث إصلاح أحوال أهل مصر، حديث دعوة عظيمة

    بالطبع،، لم يطيق فرعون هذا الحديث، فبدأ فرعون بتساؤلات -- يذكّر فيها موسى بماضيه. يذكّره بكرم تربيته له، يذكره بالحب والحنان الذي ناله وهو وليد -- تساؤلات تخص مخالفة موسى وخروجه عن دين فرعون والدعوة إلى إله غيره. بدأ (فرعون) يهول (موسى) بقتل القبطي، وليس بصريح العبارة وإنما: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) الشعراء 19.

    بشاعة وشناعة لم تفكر وقتها يا موسى برب العالمين !! لم تتحدث وقتها عن هذه الدعوى العظيم التي تدّعيها اليوم !! ظن فرعون أن هذه هي (حجة) على موسى، حجة لن يقاومها !! إلا أن الله الهم موسى، وأطلق لسانه: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) الشعراء 20، فعلتها بدافع العصبية لقومي وكنت جاهل، (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، ويكمل موسى خطابه لفرعون بنفس القوة: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ)
    يقول: نشأتي في قصرك جزء من استعبادك لبني إسرائيل، ويقول: قتلك لأبنائهم، دفع أمي لوضعي في اليم، فتلتقطه فأتربى في بيتك، لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه علي، وهل هذا هو فضلك العظيم؟!

    عند هذا الحد تدخل الفرعون في الحديث.. قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قال موسى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ، التفت فرعون لمن حوله وقال هازئا: أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قال موسى متجاوزا سخرية الفرعون: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قال فرعون مخاطبا من جاءوا مع موسى من بني إسرائيل: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، عاد موسى يتجاوز اتهام الفرعون وسخريته ويكمل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ.

    نلاحظ أن فرعون لم يكن يسأل موسى عن رب العالمين أو رب موسى وهارون بقصد السؤال البريء والمعرفة. إنما كان يهزأ. ولقد أجابه موسى إجابة جامعة مانعة محكمة (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى). هو الخالق. خالق الأجناس جميعا والذوات جميعا. وهو هاديها بما ركب في فطرتها وجبلتها من خواص تهديها لأسباب عيشها. وهو الموجه لها على أي حال. وهو القابض على ناصيتها في كل حال. وهو العليم بها والشاهد عليها في جميع الأحوال. لم تؤثر هذه العبارة الرائعة والموجزة في فرعون. حيث يسأل: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) لم تعبد ربك هذا؟

    لم يزل فرعون ماضيا في استكباره واستهزائه. ويرد موسى ردا يستلفته إلى أن القرون الأولى التي لم تعبد الله، والتي عبدته معا، لن تترك بغير مساءلة وجزاء. كل شيء معلوم عند الله تعالى. هذه القرون الأولى (عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ). أحصى الله ما عملوه في كتاب. (لَّا يَضِلُّ رَبِّي). أي لا يغيب عنه شيء. (وَلَا يَنسَى). أي لا يغيب عن شيء. ليطمئن الفرعون بالا من ناحية القرون الأولى والأخيرة وما بينهما. إن الله يعرف كل شيء ويسجل عليها ما عملته ولا يضيع شيئا من أجورهم.

    لفت موسى نظر فرعون إلى آيات الله في الكون. ودار به مع حركة الرياح والمطر والنبات وأوصله مرة ثانية إلى الأرض، وهناك افهمه أن الله خلق الإنسان من الأرض، وسيعيده إليها بالموت، ويخرجه منها بالبعث، وسيقف كل إنسان يوم القيامة أمام الله تعالى. لا استثناء لأحد. سيقف كل عباد الله وخلقه أمامه يوم القيامة. بما في ذلك الفرعون. بهذا جاء موسى مبشرا ومنذرا.

    لم يعجب فرعون هذا النذير، وتصاعد الحوار بينهما. فالطغيان لا يخشى إلا يقظة الشعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره إلا الداعين إلى الوعي واليقظة؛ ولا ينقم على أحد إلا على من يهزون الضمائر الغافية. ولذلك،، هاج فرعون على موسى، وأنهى الحوار بالتهديد. وهذا هو سلاح الطغاة عندما يفتقرون لمنطق الحجج والبراهين: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

    لم يفقد موسى رباطة جأشه. لن يفقدها وهو رسول الله، والله معه ومع أخيه، وبدأ الإقناع بأسلوب جديد، وهو إظهار المعجزة (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ) فهو يتحدى فرعون، ويحرجه أمام ملأه، فلو رفض فرعون الإصغاء، سيظهر واضحا أنه خائف من حجة موسى (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

    ألقى موسى عصاه في ردهة القصر العظيمة. لم تكد العصا تلمس الأرض حتى تحولت إلى ثعبان هائل يتحرك بسرعة. ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي بيضاء كالقمر.

    التحدي: تحدي السحرة: بداية الجولة الثانية،، شاور فرعون الملأ فيما يجب فعله. فهم مقربون من فرعون، ولهم نفوذ وسلطان. فأشاروا أن يرد على سحر موسى بسحر مثله، فيجمع السحرة لتحدي موسى وأخاه. تحديد الميقات، يوم الزينة. بدأت حركة إعداد الجماهير فدعوهم إلى عدم التخلف عن الموعد، ليراقبوا فوز السحرة على موسى ،، الإسرائيلي

    السحرة، ذهبوا لفرعون ليطمئنوا على المكافأة إن غلبوا موسى. جماعة مأجورة، تبذل مهارتها مقابل أجر تنتظره؛ لا علاقة لها بعقيدة ولا بقضية، وهم هم ألاء يستوثقون من الجزاء على براعتهم. وفرعون يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه. بزعمه الملك والإله!



    ساحة المواجهة. اجتمع الناس، وبحضرة فرعون. حضر موسى وأخاه هارون عليهما السلام، وحضر السحرة وفي أيديهم كل ما أتقنوه من ألعاب وحيل، كلهم ثقة بفوزهم في هذا التحدي. لذا بدءوا بتخيير موسى: (إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى) تتجلى ثقة موسى في الجانب الآخر واستهانته بالتحدي (بَلْ أَلْقُوا) فرمى السحرة عصيهم وحبالهم بعزة فرعون (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ).

    رمى السحرة بعصيهم وحبالهم فإذا المكان يمتلئ بالثعابين (سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). وحسبنا أن يقرر القرآن الكريم أنه سحر عظيم (وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)، لندرك أي سحر كان. يكفينا أن نعلم أنهم (سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ) وأثاروا الرهبة في قلوبهم (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) لنتصور أي سحر كان. فنظر موسى عليه السلام إلى حبال السحرة وعصيهم وشعر بالخوف.

    هي لحظة، يذكّره ربّه بأن معه القوة الكبرى. ومعه الحق، أما هم فمعهم الباطل. معه العقيدة ومعهم الحرفة. معه الإيمان بصدق دفعه لما هو فيه، ومعهم أجر مباراة ومغانم حياة. موسى مع رب العباد، والسحرة مع طاغية جبار. لا تخف (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) ستهزمهم، سحر من تدبير ساحر لا يفلح، ساحر لا يعتمد على حقيقة ثابتة باقية.

    اطمأن موسى ورفع عصاه وألقاها، لم تكد عصا موسى تلامس الأرض حتى وقعت المعجزة الكبرى، وضخامة المعجزة حولت مشاعر ووجدان السحرة وهم أحرص الناس على الفوز لنيل الأجر. الذي بلغت براعتهم لحد أن يشعر موسى بالخوف من عملهم. تحولت مشاعرهم بحيث لم يسعفهم الكلام للتعبير: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى).

    فعل الحق في الضمائر. ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق في القلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين. السحرة أعلم الناس بحقيقة فنهم، ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه. وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى. هم أعلم أنه من القدرة التي تفوق قدرة السحر. استعداد للتسليم بالحقيقة. ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق، الذي يجددون برهانه في أنفسهم عن يقين.

    هذه مفاجأة هزت عرش فرعون. مفاجأة استسلام السحرة - وهم من كهنة المعابد - لرب العالمين. رب موسى وهارون. بعد أن تم جمعهم لإبطال دعوة موسى وهارون ! العرش والسلطان أهم شيء في حيات الطواغيت، مستعدون لارتكاب أي جريمة في سبيل الحافظ عليه.

    تسائل فرعون مستغربا (آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ) كأنما كان عليهم أن يستأذنوه. يزيد في طغيانه فيقول (إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا) إن غلبته لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم. ويظل الطاغية يتهدد (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ويتوعد (لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) لكن النفس البشرية حين تستيقن حقيقة الإيمان، تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة، تنتصر فيها العقيدة, وتختار الخلود الدائم على الحياة الفانية. (قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ) إنه الإيمان الذي لا يتزعزع ولا يخضع.

    ويعلن السحرة حقيقة المعركة (وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا) لا يطلبون الصفح والعفو، إنما الثبات والصبر من ربهم (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين). فيقف الطغيان عاجزا أما هذا الوعي وهذا الاطمئنان. عاجزا عن رد هؤلاء المؤمنين لطريق الباطل من جديد. فينفذ تهديده، ويصلبهم على جذوع النخل.

    التآمر على موسى ومن آمن معه: جولة جديدة بين الحق والباطل. هاهم علية القوم من المصريين، يحرضون فرعون على موسى ومن آمن معه، ويخوّفونه من عاقبة التهاون معهم. وهم يرون الدعوة إلى ربوبية الله وحدة فسادا في الأرض. يترتب عليها بطلان حكم فرعون. التي كان يستمدها من ديانتهم الباطلة، كان فرعون ابن الآلهة. وعبادة الله رب العالمين تلغي سطوة فرعون. أشعرته بخطر حقيقي على نظامه كله ففكر بوحشيته المعتادة وقرر (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ).

    تنكيل وحشي لم يكن جديدا على بني إسرائيل. فقد نُفِّذ عليهم هذا الحكم في إبان مولد موسى. فبدأ موسى يوصي قومه باحتمال الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها. (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

    قوم موسى،، بدءوا يشتكون من العذاب الذي حل بهم (قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) كلمات ذات وقع!! أوذينا وطال الأذى حتى ما تبدو له نهاية! بقي موسى يذكرهم بالله، ويعلق رجاءهم به، ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم. واستخلافهم في الأرض. مع التحذير من فتنة الاستخلاف، فاستخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

    القرآن الكريم ينقلنا إلى فصل آخر من قصة موسى عليه السلام. ومشهد آخر من مشاهد المواجهة بين الحق والباطل. حيث يحكي لما قصة تشاور فرعون مع الملأ في قتل موسى. (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) أما موسى فالتجأ إلى ركن ركين، وحصن حصين، ولاذ بحامي اللائذين ومجير المستجيرين (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ).

    موقف الرجل المؤمن من آل فرعون: كادت فكرة فرعون أن تحصل على التصديق لولا رجل من آل فرعون. رجل من رجال الدولة الكبار، لا يذكر القرآن اسمه، إنما ذكر القرآن أنه رجل مؤمن. ذكره بالصفة التي لا قيمة لأي صفة بعدها. تحدث هذا الرجل المؤمن، وكان (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)، تحدث في الاجتماع الذي طرحت فيه فكرة قتل موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها. قال إن موسى لم يقل أكثر من أن الله ربه، وجاء بعد ذلك بالأدلة الواضحة على كونه رسولا، وهناك احتمالان لا ثالث لهما: أن يكون موسى كاذبا، أو يكون صادقا، فإذا كان كاذبا (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)، وهو لم يقل ولم يفعل ما يستوجب قتله. وإذا كان صادقا وقتلناه، فما هو الضمان من نجاتنا من العذاب الذي يعدنا به؟

    قال المؤمن لقومه: إننا اليوم في مراكز الحكم والقوة. من ينصرنا من بأس الله إذا جاء؟ ومن ينقذنا من عقوبته إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا. بدت كلماته مقنعة. إنه رجل ليس متهما في ولائه لفرعون. وهو ليس من أتباع موسى. والمفروض أنه يتكلم بدافع الحرص على عرش الفرعون. ولا شيء يسقط العروش كالكذب والإسراف وقتل الأبرياء.

    من هذا المنطلق ،، استمدت كلمات المؤمن قوتها. بالنسبة إلى فرعون ووزرائه ورجاله. ورغم أن فرعون وجد فكرته في قتل موسى، صريعة على المائدة. رغم تخويف الرجل المؤمن لفرعون. رغم ذلك قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثلا بعده لكل الطغاة: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ). هذه كلمة الطغاة دائما حين يواجهون شعوبهم (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى). هذا رأينا الخاص، وهو رأي يهديكم سبيل الرشاد. وكل رأي غيره خاطئ. وينبغي الوقوف ضده واستئصاله.

    لم يقف الناقش عند هذا الحد. ولكنه لم يقنع بها الرجل المؤمن. وعاد الرجل المؤمن يتحدث وأحضر لهم أدلة تاريخية، أدلة كافية على صدق موسى. وحذّرهم من المساس به.
    ذكّرهم بتاريخ مصر. وبيوسف عليه السلام حين جاء بالبينات، فشك فيه الناس ثم آمنوا به بعد أن كادت النجاة تفلت منهم، ينبغي أن يكون التاريخ القديم موضع نظر. وانتصرت القلة على الكثرة. وقصص الطوفان والصرخة والخسف.

    حديث ينطوي على عدد تحذيرات مخيفة أقنع الحاضرين بأن فكرة قتل موسى فكرة غير مأمونة العواقب. فكرة لا داعي لها. حاول الطاغية فرعون مرة أخرى المحاورة والتمويه، كي لا يجاهر بعدم الإعتراف بوحدانية قد تهز عرشه. فطلب أن يبنى له بناء عظيم، يصعد عليه ليرى إله موسى الذي يدعيه. وبعيدا أن يكون جادا في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج. وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حدا يبعد معه هذا التصور. وإنما هو الاستهتار والسخرية من جهة. والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى.

    بعد هذا الاستهتار، وهذا الإصرار، ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة:وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) (غافر)

    أنهى الرجل المؤمن حديثه بهذه الكلمات الشجاعة. بعدها انصرف. انصرف،، فتحول الجالسون من موسى إليه. بدءوا يمكرون للرجل المؤمن. بدءوا يتحدثون عما صدر منه. فتدخلت عناية الله تعالى
    (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) وأنجته من فرعون وجنوده. ابتلاء الله أهل مصر:حال مصر تلك الفترة. لقد مضى فرعون في تهديده - قتل الرجال واستحيا النساء - ظل موسى وقومه يحتملون العذاب يرجون فرج الله، ويصبرون على الابتلاء.

    وظل فرعون في ظلاله وتحدّيه. فتدخلت قوة الله سبحانه وتعالى أن يشدد على آل فرعون. ابتلاء لهم وتخويفا، لكي يصرفهم عن الكيد لموسى ومن آمن معه، وإثباتا لنبوة موسى وصدقه. سلط على المصريين أعوام الجدب. أجدبت الأرض وشح النيل ونقصت الثمار وجاع الناس، واشتد القحط. لكن آل فرعون لم يدركوا العلاقة بين كفرهم وفسقهم وبين بغيهم وظلمهم لعباد الله. فأخذوا يعللون الأسباب. فعندما تصيبهم حسنة، يقولون إنها من حسن حظهم وأنهم يستحقونها. وإن أصابتهم سيئة قالوا هي من شؤم موسى ومن معه عليهم، وأنها من تحت رأسهم!

    وأخذتهم العزة بالإثم فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قحط. وصور لهم حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم، آية جاء بها موسى ليسحرهم بها، وهي آية لن يؤمنوا بها مهما حدث. فشدد الله عليهم لعلهم يرجعون إلى الله، ويطلقون بني إسرائيل ويرسلونهم معه. فأرسل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل - سوس - والضفادع، والدم. لا يذكر القرآن إن كانت جملة أم واحدة تلو الأخرى. رغم ذكر روايات أنها جاءت متتالية وحدة تلو الأخرى. المهم هو طلب آل فرعون من موسى أن يدعو لهم ربه لينقذهم من هذا البلاء. وبعدونه في كل مرة أن يرسلوا بني إسرائيل إذا أنجاهم ورفع عنهم هذا البلاء (قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ).

    فكان موسى يدعو الله بأن يكشف عنهم العذاب. وما أن ينكشف البلاء حتى ينقضون عهدهم، ويعودون إلى ما كانوا فيه (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ). لم يهتد المصريون، ولم يوفوا بعهودهم، على العكس. خرج فرعون لقومه، وأعلن أنه إله. له ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحته، أعلن أن موسى ساحر كذاب. ورجل فقير لا يرتدي أسورة من ذهب.

    ويعبّر القرآن الكريم عن أمر فرعون وقومه: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ). استخف بعقولهم. وبحريتهم. وبمستقبلهم. وبآدميتهم. فأطاعوه. طاعة عمياء. تنمحي الغرابة حين نعلم أنهم كانوا قوما فاسقين. إن الفسق يصرف الإنسان عن الالتفات لمستقبله ومصالحه وأموره، وذلك ما وقع لقوم فرعون.

    خروج بني إسرائيل من مصر: بدا واضحا أن فرعون لن يؤمن لموسى. بل ولن يكف عن تعذيبه لبني إسرائيل، هنالك دعا موسى وهارون على فرعون.

    وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89) (يونس)

    لم يكن قد آمن مع موسى فريق من قومه. فانتهى الأمر، وأوحي إلى موسى أن يخرج من مصر مع بني إسرائيل. وأن يكون رحيلهم ليلا، ونبأه أن فرعون سيتبعهم بجنده؛ وأمره أن يقوم قومه إلى ساحل البحر وهو في الغالب عند التقاء خليج السويس بمطقة البحيرات.

    وبلغت الأخبار فرعون أن موسى قد صحب قومه وخرج. فأرسل أوامره في المدن لحشد جيش عظيم. ليدرك موسى وقومه، ويفسد عليهم تدبيرهم. هذا من شأنه تشكيل صورة خطورة موسى وقومه على فرعون وملكه، لذلك كان لا بد من تهوين الأمر بتقليل شأن قوم موسى وحجمهم (إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) نطاردهم ونهيم على زمام الأمور.

    وقف موسى أمام البحر، بدا جيش الفرعون يقترب، ظهرت أعلامه، امتلأ قوم موسى بالرعب، كان الموقف ليس حرجا فقط ،، بل وخطير، إما البحر أو العدو، البحر أمامهم والعدو ورائهم، ليس معهم سفن أو أدواتعبور، بل ،، وليست أمامهم فرصة واحدة للقتال !! مجموعة من نساء وأطفال ورجال غير مسلحين سيذبحهم فرعون عن آخرهم.

    وتعالت أصوات من قوم موسى، بل تعالت صرخاتت من قوم موسى: سيدركنا فرعون، سيدركنا فرعون،، سيدركنا فرعون،،، قال موسى: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ). لم يكن يدري موسى كيف ستكون النجاة، كان قلبه ممتلئا بالثقة بربه، واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، الله هو الذي يوجهه ويرعاه في اللحظة الأخيرة، يجيء الوحي من الله : (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ) فضربه، فوقعت المعجزة (فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) وتحققه المستحيل في منطق الناس.

    ووصل فرعون إلى البحر، شاهد هذه المعجزة، شاهد في البحر طريقا يابسا يشقه نصفين، أمر جيشه بالتقدم. وحين انتهى موسى من عبور البحر، أوحى الله إلى موسى أن يترك البحر على حاله (وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ)، وكان الله تعالى قد شاء إغراق الفرعون. فما أن صار فرعون وجنوده في منتصف البحر، حتى أصدر الله أمره، فانطبقت الأمواج على فرعون وجيشه. وغرق فرعون وجيشه. غرق العناد ونجا الإيمان بالله.

    ولما عاين فرعون الغرق، ولم يعد يملك النجاة (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سقطت عنه كل الأقنعة الزائفة، وتضائل، فلم يكتفي بأن يعلن إيمانه، بل والاستسلام أيضا (وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لكن بلا فائدة، فليس الآن وقت اختيار، بعد أن سبق العصيان والاستكبار (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

    انتهى وقت التوبة المحدد لك وهلكت، انتهى الأمر ولا نجاة لك، سينجو جسدك وحده، لن تأكله الأسماك، ولين يحمله التيار بعيدا عن الناس، بل سينجو جسدك لتكون آية لمن خلفك،، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) (يونس)

    نهاية سلسلة طغيان فرعون، لفظت الأمواج جثته إلى الشاطئ وأسدل الستار تماما عن المصريين، فخرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم، كان خروجهم هذا هو الأخير، كان إخراجا لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز، فلم يعودوا بعدها لهذا النعيم

    القرآن الكريم لا يحدثنا عما فعله من بقى من المصررين في مصر بعد سقوط نظام الفرعون وغرقه مع جيشه، ولا يحدثنا عن ردود فعلهم بعد أن دمر الله ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يشيدون. يسكت السياق القرآني عنهم ويستبعدهم تماما من التاريخ والأحداث

    التعديل الأخير تم بواسطة محمد بن سعد ; September 1st, 2009 الساعة 23:35
    كل شيء غير ربك والعمل
    لو تزخرف لك مرده للزوال

    ما يدوم العز عز الله وجـل
    في عدال ما بدا فيه امتيـال

  2. #2

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

    بارك الله فيك اخي الكريم د/ محمد سعد

    واسال الله ان يجعل ماكتبت في ميزان حسناتك يوم تلقاه .

  3. #3
    الرائد7

    افتراضي

    السلام عليكم
    بارك الله في الجهد
    وبانتظار المواصلة

  4. #4
    المشرف العام الصورة الرمزية محمد بن سعد
    تاريخ التسجيل
    Apr 2008
    الدولة
    السعودية، الرياض
    العمر
    71
    المشاركات
    10,545
    مقالات المدونة
    2
    معدل تقييم المستوى
    10

    مؤكد نبي الله موسى عليه السلام 2 - 2

    محمد بن سعد (درة) : نبي الله موسى عليه السلام، وصلنا في هذه الحلقة إلى نفسية بني إسرائيل الذليلة: مات فرعون مصر، غرق أمام عيون المصريين وبني إسرائيل،، ورغم موته،،، فقد ظل أثره باقيا في نفوس المصريين وبني إسرائيل سنوات القهر والذل الطويلة من الصعب أن تتناساها نفوس الناس، لاننسى أن فرعون عوّد بني إسرائيل الذل لغير الله، هزم أرواحهم وأفسد فطرتهم فعذبوا موسى عذابا شديدا بالعناد والجهل.



    معجزة شق البحر كانت لم تزل طرية في أذهانهم حين مروا على قوم يعبدون الأصنام وبدلا من أن يظهروا استيائهم لهذا الظلم للعقل، وبدلاً من أن يحمدوا الله أن هداهم للإيمان، بدلا من ذلك، طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها يعبدونه مثل الآخرين من الناس، عاودهم الحنين إلى الشرك القديم أيام فرعون، ناصحهم موسى عن هذا الجهل، ناصحهم أن الله فضل بني إسرائيل على العالمين، كيف يُجحد هذا التفضيل بصنما يعبدونه من دون الله، وذكّرهم بفرعون وعذابه لهم ،، وكيف أن الله نجاهم منه.

    موعد موسى لملاقاة ربه: بهذا، انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى عليه السلام، مهمة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والتعذيب على يد فرعون، مهمة السير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، لكن القوم لم يكونوا على استعداد لهذه المهمة الكبرى،، مهمة خلافة الأرض بدين الله عز وجل.

    الاختبار الأول كان أكبر دليل على ذلك، ما أن رأوا قوما يعبدون صنما، حتى اهتزت عقيدة التوحيد في نفوسهم، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم وثنا يعبدوه، كان لا بد من رسالة مفصلة لتربية هذه الأمة، كان لا بد من إعدادها لما هم مقبلون عليه. من أجل هذه الرسالة كان هناك موعداً من الله لعبده موسى ليلقاه.

    هذه الموعد الرباني كان بمثابة إعداد لنفس موسى ليتهيأ للموقف العظيم، لذلك ،، استخلف في قومه أخاه هارون عليه السلام، كانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة، أضيف إليها عشر، فبلغت عدتها أربعين ليلة، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود وينعزل فيها عن شواغل الأرض، ينعزل كي تصفو روحه وتتقوى عزيمته

    يذكر ابن كثير في تفسيره عن أمر هذه الليالي: "فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة؛ قال المفسرون: فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين".

    كان موسى بصومه أربعين ليلة يتقرب من ربه أكثر، كان موسى بتكليم الله له يزداد حبا في ربه أكثر، فطلب موسى أن يرى الله، مشاعر تجيش في قلب موسى عليه السلام حين سأل ربه الرؤية، حب إلهي عمق إحساسه وحبه لخالقه دفعه إلى أن يسأل الله رؤيته.

    وجاءه رد الحق عز وجل: قَالَ لَن تَرَانِي، موقف حب إلهي من جانب موسى. أدركت رحمة الله تعالى موسى. أفهمه أنه لن يراه، لأأحدا من الخلق يصمد لنور الله، قال تعالى: (وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا)،، نور الله دكّ الجبل ،، نور الله ساواه بالأرض، وسقط موسى مغشيا عليه ،، فلما أفاق ،، قال سبحانك اللهم تعاليت عن أن تدركك الأبصار. واستتاب موسى ربه عن تجاوزات سؤاله.

    رحمة الخالق،، تلقى موسى عليه السلام بشرى الاصطفاء وبشرى توجيهه بالرسالة قال تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) "إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي".

    وقف كثير من المفسرين أمام هذه الآية، أجريت مقارنات بينه وبين غيره من الأنبياء، قيل إن هذا الاصطفاء كان خاصا بعصره وحده، ولا ينسحب على العصر الذي سبقه لوجود إبراهيم فيه، وإبراهيم خير من موسى، لا ينطبق هذا الاصطفاء على العصر الذي يأتي بعده، كون محمد بن عبد الله ،، هو أفضل منهما. وهذا جدل !!! كوننا نعتقد أن كل الأنبياء سواء، الله سبحانه وتعالى فضل بعض النبيين على بعض ورفع درجات بعضهم على البعض، هذا التفضيل هو (( منطقة محرمة علينا ))، وأن لنقف في موقع الإيمان بجميع الأنبياء ،، موقفا لا نتعداه أبدا.

    موقفا نؤد ( نحنُ ) نحوهم فيه فروض الاحترام على حد سواء، لا ينبغي الخوض في درجات المعصومين المختارين من الله، ولا نفاضل ( نحن ) بين الأنبياء ،، فالأولى أن نؤمن بهم جميعا
    يقول الله تعالى عن مضمون الرسالة: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) ،، هذا موضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال تلك الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد.

    عبادة العجل: انتهى ميقات موسى مع ربه تعالى وعاد غضبان أسفا إلى قومه ،، لماذا ؟ لقد أخبره الله أن قموه قد ضلّوا من بعده وأن رجلا من بني إسرائيل يدعى السّامري هو من أضلّهم، انحدر موسى من قمة الجبل وهو يحمل ألواح التوراة، قلبه يغلي بالغضب والأسف، لم يكد موسى يغادر قومه إلى ميقات ربه، حتى وقعت فتنة السامري، فتنة بني إسرائيل حين خرجوا من مصر، صحبوا معهم حلي المصريين وذهبهم، كانت نساء بني إسرائيل استعرنه للتزين به، وعندما أمروا بالخروج حملوه معهم، ثم قذفوها لأنها حرام، فأخذها السامري، وصنع منها تمثالا لعجل، وكان السامري فيما يبدو نحاتا محترفا، صنع العجل مجوفا من الداخل، ووضعه في اتجاه الريح، يدخل الهواء من خلفه ويخرج من أنفه، فيحدث صوتا يشبه خوار العجول الحقيقية.

    ويقال إن سر الخوار أن السامري قد أخذ تراباً سار عليه جبريل حين نزل إلى الأرض في معجزة شق البحر، أي أن السامري أبصر بما لم يبصروا به، فقبض قبضة من أثر الرسول جبريل عليه السلام، فوضعها مع الذهب وهو يصنع منه العجل، وكان جبريل لا يسير على شيء إلا دبت فيه الحياة، فلما أضاف السامري التراب إلى الذهب، ثم صنع منه العجل، خار العجل كالعجول الحقيقية، وهذه هي القصة التي قالها السامري لموسى عليه السلام[/i].

    بعدها ،، جاء السامري على بني إسرائيل بما صنعه، سألوه: ما هذا يا سامري؟ قال: هذا إلهكم وإله موسى، قالوا: لكن موسى ذهب لميقات إلهه، قال السامري: لقد نسي موسى. ،، ذهب للقاء ربه هناك ،، بينما ربه هنا. هبت موجة من الرياح فدخلت من دبر العجل الذهبي وخرجت من فمه ،، فخار العجل، فعبد بنو إسرائيل هذا العجل .

    فتنة الاستخفاف بعقول القوم: رأوها معجزة ،، ولكن !! كيف ينقلب القوم للوثنية في لحظة؟ نفسية من عبد العجل ،، نفسية تربّت في مصر، نفسية أيام عبادة الأصنام في مصر، نفسية ربت على الذل وعلى العبودية، نفسية مرت عليها معجزات الله فصادفت نفوسا تالفة الأمل، معجزات حسية لم يقتنعوا بها مثل ما لمسوا من خوار العجل÷، نفسية وثنية ،، ولهذا ،، انقلبوا إلى عبادة العجل.

    لقد فوجئ هارون عليه السلام بأن بني إسرائيل يبدأوا عبدون عجلا من الذهب، فوجئ بانقسمهم إلى قسمين: أقلية مؤمنة أدركت خطأ الأغلبية الكافرة، ووقف هارون في قومه يعظهم ،، ويقول: إنكم فتنتم به، استغل السامري جهلكم وفتنكم بعجله. ليس هذا ربكم ولا رب موسى (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي).

    ولكن ،، رفض عبدة العجل موعظة هارون، وذكرهم هارون بمعجزات الله التي أنقذهم بها، فأصموا آذانهم ورفضوا كلماته، واستضعفوه، بل كادوا يقتلونه عليه السلام، وأجلوا نقاش الموضوع حتى عودة موسى، كان هارون أكثر لينا من موسى، لم يهابه القوم للينه وشفقته، خشي هارون أن يلجأ إلى القوة فتثور فتنة بين القوم، فآثر هارون تأجيل الموضوع حتى عودة موسى. واستمر القوم يرقصون حول العجل.

    انحدر موسى عائدا لقومه فسمع صياح قومه يرقصون حول العجل، توقف القوم عند ظهور موسى صرخ موسى يقول: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ)، اتجه موسى نحو هارون وألقى ألواح التوراة على الأرض، كان غضب موسى يتحكم فيه تماما، أمسك موسى هارون من شعر رأسه ولحيته وهو يرتعش. قال موسى: "يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي" طه 92، 93 هل عصى هارون أمر موسى!! كيف سكت على هذه الفتنة؟ وكيف طاوعهم على البقاء معهم ولم يخرج ويتركهم ويتبرأ منهم؟

    ساد الصمت عمقا بعد جملة موسى الغاضبة، رجا هارون من موسى. أن يترك رأسه ولحيته، انتمائهما لأم واحدة، يذكره بالأم ،، لا يذكره بالأب ،، استثارة مشاعر الحنو في نفسه، أفهم هارون أخاه موسى بلين بأن الأمر ليس عصيان ولا رضا بعبادة العجل، ولكن خوفه من أن تثار فتنة قوم استضعفوا وكادوا يقتلونه أثناء غيابه، ورجا منه ترك شعر رأسه ولحيته حتى لا يشمت به الأعداء.

    أدرك موسى أنه ظلم هارون لغيرته في دينه أدرك موسى أن هارون أحسن التصرف في تلك الظروف، ترك رأسه ولحيته واستغفر الله له ولأخيه التفت موسى لقومه وتساءل بصوت لم يزل يضطرب غضبا: (يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي). هنا ،، عنف موسى قومه ومُخالفتهم للعهد. يقول موسى غاضبا : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)

    لم تكد أصداء الصوت الغاضب تتخافت، حتى نكس القوم رءوسهم وأدركوا خطأهم، كان افتراء واضح على الحق الذي جاء به موسى، عودتهم إلى عبادة الأصنام خلال أربعين يوما فقط، يعود موسة ليجدهم يعبدون عجلا من ذهب... أمام ثورة موسى أثبت له هارون براءته كمسئول عن قومه في غيبته، التفت موسى إلى السامري كما سكت القوم ونكسوا رءوسهم، لم يبق سوى المسئول الأول عن الفتنة : وهو السامري تحدث موسى إلى السامري وغضبه لم يهدأ بعد: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ)

    يريد أن يعرف منه ما الذي حمله على ما صنع ،، قال السامري: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)، رأيت جبريل وهو يركب فرسه فلا تضع قدمها على شيء إلا دبت فيه الحياة (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أخذت حفنة من التراب الذي سار عليه جبريل وألقيتها على الذهب، (فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)، هذا ما ساقتني نفسي إليه،، هنا -- موسى عليه السلام ،، لم يناقش السامري في ادعائه إنما قذف في وجهه حكم الحق.

    ليس المهم أن السامري قد رأى جبريل أو قبض قبضة من أثره و التراب الذي سار عليه فرس جبريل أو أن يخور العجل،، المهم في الأمر كله جريمة السامري ،، وفتنته لقوم موسى، فتنة استغلال إعجاب القوم الدفين بوثنية سادتهم المصريين، الجريمة التي حكم فيها موسى عليه السلام: (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا).

    حكم موسى على السامري ( الوحدة في الدنيا ) ،، يقول بعض المفسرين: إن موسى دعا على السامري بأن لا يمس أحدا، معاقبة له على مسه ما لم يكن ينبغي له مسه، ربما أن السامري أراد بفتنته ضلال بني إسرائيل، أراد جمعهم حول عجله الوثني والسيادة عليهم، ولذلك ،، جاءت عقوبته مساوية لجرمه حكم عليه بالنبذ والوحدة.

    هل أصاب السامري مرضا جلديا يُبعِد الناس عنه من لمسه ؟ أمر الأسلوب الذي تمت به وحدة السامري ونبذ المجتمع له مجهولة، ما نعرف فقط هو أن موسى أوقع عليه عقوبة رهيبة ،، القتل أهون منها عاش السامري منبوذا محتقرا لا يلمس شيئا ولا يمس أحدا ولا يقترب منه مخلوق هذه عقوبته في الدنيا تختلف عن عقوبة الآخرة.

    بعدها ،، نهض موسى إلى العجل الذهب ،، وألقاه في النار، ولم يكتف بصهره أمام القوم وإنما نسفه في البحر نسفا، تحول الإله المعبود أمام عيون المفتونين به إلى رماد يتطاير في البحر
    ارتفع صوت موسى: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) هذا هو إلهكم، وليس ذلك الصنم الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. بعدها ،، وقف في قومه، وحكم أنهم ظلموا أنفسهم ،، وترك لعبدة العجل مجالا واحدا للتوبة ،، كان هذا المجال هو: أن يقتل المطيع من بني إسرائي من عصى.

    قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) البقرة 54،، عقوبة قرّرها موسى على عبدة العجل إن عبادة الأوثان إهدار لحياة العقل ،، صحوة تميز الإنسان عن غيره، العقوبة إزهاق لحياة الجسد نفسه ،، فليس بعد العقل حياة يتميز بها الإنسان، جاءت العقوبة من نوع الجرم ،، جاءتقاسية ثم رحم الله تعالى وتاب. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم

    أخيرا: سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ تعبير القرآن الكريم يصور الغضب في صورة كائن يقود تصرفات موسى، غضب ابتداء من إلقائه لألواح التوراة وشده للحية أخيه ورأسه، وانتهاء بنسف العجل في البحر، وحكمه بالقتل على من اتخذوه ربا، أخيرا سكت عن موسى الغضب ،، غضبه في الله، أرفع أنواع الغضب وأجدرها بالاحترام، التوقير،، التفت موسى إلى مهمته الأصلية وتذكر أنه ألقى ألواح التوراة، وعاد موسى يأخذ الألواح ويعاود دعوته إلى الله.

    رفع الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل: استأنف جهاده في الله، وقرأ ألواح التوراة على قومه، أمرهم اولاً أن يأخذوا بأحكامها بقوة وعزم، ولكن ،، قومه ساوموه على الحق، قالوا: انشر علينا الألواح فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها، فقال موسى: بل اقبلوها بما فيها، فراجعوا مرارا.

    أمر الله تعالى ملائكته فرفعت الجبل على رءوسهم حتى صار كأنه غمامة فوقهم وقيل لهم: إن لم تقبلوها بما فيها سقط ذلك الجبل عليكم، فقبلوا بذلك، وأمروا بالسجود فسجدوا، وضعوا خدودهم على الأرض وراحوا ينظرون إلى الجبل فوقهم هلعا ورعبا ،، هكذا أثبت قوم موسى أنهم لا يسلمون وجوههم لله، إلا إذا لويت أعناقهم بمعجزة حسية باهرة، تلقي الرعب في القلوب، وتنثني الأقدام نحو سجود قاهر يدفع الخوف إليه دفعا. هكذا سيق هؤلاء الناس بالعصا الإلهية إلى الإيمان، يقع هذا في ظل غياب الوعي والنضج الكافيين للاقتناع العقلي، نفسية قوم موسى مسئولة عن عدم اقتناعهم إلا بالقوة الحسية والمعجزات.

    تربى قوم موسى وسط هوان وذل أهدرت فيهما إنسانيتهم وفطرته، لا يساقوا إلى الخير إلا بقوة اعتادوا عليها زمن سادتهم القدامى، سيدهم الجديد ( هو الإيمان ) يقاسي الأهوال لتسييرهم، يلجأ مضطرا إلى أسلوب القوة لينقذهم من الهلاك

    اختيار سبعين رجلا لميقات الله: أمر موسى بني إسرائيل أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه، ختار منهم سبعين رجلا، الخيّر فالخيّر، وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، خرج موسى بهؤلاء السبعين المختارين لميقات حدده له الله تعالى، دنا موسى من الجبل، وكلم الله تعالى موسى، وسمع السبعون موسى وهو يكلم ربه.

    ولعل معجزة كهذه تكون الأخير، وتكون كافية لحمل الإيمان إلى قلوبهم مدى الحياة ولكن السبعين المختارين لم يكتفوا بما استمعوا إليه من معجزة، إنما طلبوا رؤية الله تعالى، قالوا سمعنا ونريد أن نرى، قالوا لموسى ببساطة: (يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً). مأساة تثير الدهشة، مأساة تشير إلى صلابة القلوب واستمساكها بالماديات، كوفئ الطلب المتعنت بعقوبة صاعقة، أخذتهم رجفة مدمرة صعقت أرواحهم وأجسادهم ،، ماتوا

    أدرك موسى ما أحدثه السبعون المختارون فملأه الأسى، دعا عليه السلام ربه وناشده أن يعفو عنهم، رؤية الله تبارك وقسوة القلب سفاهة كبرى لا يكفر عنها إلا الموت، يطلب النبي رؤية ربه
    كما فعل موسى، رغم انطلاق الطلب من واقع حب عظيم، رغم هذا كله يعتبر طلب الرؤية تجاوزا للحدود، فما بالنا بصدور هذا الطلب من بشر، يحددون للرؤية مكانا وزمانا، بعد كل ما لقوه من معجزات وآيات، وقف موسى يدعو ربه ويستعطفه ويترضاه.

    يحكي المولى عز وجل دعاء موسى عليه السلام بالتوبة على قومه في سورة الأعراف: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِين (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) الأعراف

    كلمات موسى لربه وهو يدعوه ويترضاه، رضي الله تعالى عنه وغفر لقومه فأحياهم بعد موتهم، المختارون في هذه اللحظات الباهرة، استمعوا من تاريخ الحياة إلى النبوءة، سمعوا بمجيء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

    نلاحظ طريقة الربط بين الحاضر والماضي في الآية يتجاوز الله تعالى زمن مخاطبة الرسول في الآيات إلى زمنين سابقين هما نزول التوراة ونزول الإنجيل ليقرر أنه ( تعالى ) بشّر بمحمد في هذين الكتابين الكريمين - إيراد هذه البشرى - جاء يوم صحب موسى من قومه سبعين رجلا هم أفضل شيوخ بني إسرائيل، يوم ميقات ربه في هذا اليوم الخطير بمعجزاته الكبرى تم إيراد البشرى بآخر أنبياء الله عز وجل.

    يقول ابن كثير في كتابه قصص الأنبياء، نقلا عن قتادة: إن موسى قال لربه: يا رب إني أجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: ربي إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها. وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه. وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم. رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فضول الضلالة. فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ويؤجرون عليها، وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق أحدهم بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها، وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير. وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم. رب فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب فإني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم عملها كتبت له عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد.

    نزول المن والسلوى: سار موسى بقومه في سيناء، صحراء ليس فيها شجر يقي من الشمس، وليس فيها طعام ولا ماء، أدركتهم رحمة الله فساق إليهم المن والسلوى وظللهم بالغمام. والمن مادة طعمها حلو تفرزه أشجار فاكهة، والسلوى نوع من أنواع الطيور يقال إنه (السمان).

    وحين اشتد بهم الظمأ إلى الماء ضرب لهم موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من المياه. كان بنو إسرائيل ينقسمون إلى 12 سبطا فأرسل الله المياه لكل مجموعة، ورغم هذا الإكرام والحفاوة، تحركت في النفوس المريضة لؤمها، حيث احتج قوم موسى بأنهم سئموا من هذا الطعام، بل واشتاقت نفوسهم إلى البصل والثوم والفول والعدس، هذه الأطعمة كانت أطعمة مصرية تقليدية، لذلك سأل بنو إسرائيل نبيهم موسى أن يدعو الله ليخرج لهم هذه الأطعمة. عاد موسى يستلفتهم إلى ظلمهم لأنفسهم، وحنينهم لأيام هوانهم وذلهم في مصر، وكيف أنهم بطروا على خير طعام وأكرمه، يريدون بدله أدنى الطعام وأسوأه.

    السير باتجاه بيت المقدس: سار موسى بقومه في اتجاه البيت المقدس، أمرهم موسى بدخولها وقتال من فيها والاستيلاء عليها، وها قد جاء امتحانهم الأخير، بعد كل ما وقع لهم من المعجزات والآيات والخوارق، جاء دورهم كمؤمنين ليحاربوا قوما من عبدة الأصنام. ولكن ،، رفض قوم موسى دخول الأراضي المقدسة، فحدثهم موسى عن نعمة الله عليهم كيف جعل فيهم أنبياء
    وجعلهم ملوكا يرثون ملك فرعون (وآتاهم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ) وكان رد قومه عليه أنهم يخافون من القتال حيث قالوا: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) المائدة 22

    انضم لموسى وهارون اثنان من القوم، تقول كتب القدماء إنهم خرجوا في ستمائة ألف لم يجد موسى من بينهم غير رجلين على استعداد للقتال وراح هذان الرجلان يحاولان إقناع القوم بدخول الأرض والقتال،، قالا: (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) المائدة 23 أي مجرد دخولهم من الباب سيجعل الله لهم النصر ولكن بني إسرائيل جميعا كانوا يتدثرون بالجبن ويرتعشون في أعماقهم.

    عاودتهم طبيعتهم للذل والمهانة عوضا عن الحرب والنصر، عاودوا وقاحتهم على نبي الله موسى وربه، وقالوا كلمتهم الشهيرة: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) أدرك موسى أن قومه ما عادوا يصلحون لشيء، مات الفرعون ولكن آثاره في النفوس باقية، يحتاج شفاؤها فترة طويلة، عاد موسى إلى ربه يحدثه أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه، دعا موسى على قومه أن يفرق الله بينه وبينهم .. أصدر الله تعالى حكمه على هذا الجيل الذي فسدت فطرته من بني إسرائيل - كان الحكم عليهم هو التيه أربعين عاما - حتى يموت هذا الجيل أو يصل إلى الشيخوخة ويولد بدلا منه جيل آخر، جيل لم يهزمه أحد من الداخل، جيل يستطيع ساعتها أن يقاتل وأن ينتصر.

    قصة البقرة: بدأت أيام التيه، بدأ سيرهم في دائرة مغلقة تنتهي حيث البداية وتبدأ من حيث تنتهي سير إلى غير مقصد ليلا ونهارا وصباحا ومساء دخلوا البرية عند سيناء، ومكث موسى في قومه يدعوهم إلى الله ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل لا تخطئه عين ملاحظ، وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة، الموضوع لا يقتضي كل هذه المفاوضات بينهم وبين موسى، كما أنه لم يكن يستوجب كل هذا التعنت، وأصل قصة البقرة أن قتيلا ثريا وجد يوما في بني إسرائيل، واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله، وحين أعياهم الأمر لجئوا لموسى ليلجأ لربه، ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) البقرة 67



    كان المفروض ( هنا ) أن يذبح القوم أول بقرة تصادفهم غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة، اتهموا موسى بأنه يسخر منهم ويتخذهم هزوا واستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين، أفهمهم أن حل القضية يكمن في ذبح بقرة، الأمر هنا معجزة لا علاقة لها بالمألوف في حياة الناس، ليست هناك علاقة بين ذبح بقرة ومعرفة قاتل في جريمة غامضة، ليس هناك أسباب ( منطقية ) تحكم حياة بني إسرائيل، المعجزات الخارقة هي القانون السائد في حياتهم، وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يثير العجب والدهشة.

    التعامل مع بني إسرائيل هو عنت بنفسه: تستوي فيه أمور دنيهم بشؤون العقيدة ويعاني من يتصدى لأمر من أمور بني إسرائيل ويعاود موسى أمره أن يذبحوا بقرة ،، أي بقرة كانت، وتعود طبيعة مراوغتهم بالظهور بلجاجة والالتواء: أهي بقرة عادية؟ أم أنها خلق تفرد بمزية؟ ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم، ويتم تحديد أوصاف البقرة أكثر فأكثر، مفاوضات تستمر في مراوغة بني إسرائيل، لا يراعون الأدب في حق الله تعالى ثم حق نبيه الكريم.

    يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ{67} قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ{68} قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ{69} قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ{70} قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ{71} البقرة

    تم تحديد البقرة رغم وضوح الأمر، حدثهم موسى عن بقرة ليست لحرث ولا لسقي، سليمة من العيوب، صفراء خالصة الصفرة ،، وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها، أمسك موسى جزء من البقرة (قيل لسانها) وضرب به القتيل فنهض من موته، سأله موسى عن قاتله (قيل أشار إلى القاتل) ثم عاد إلى الموت، شاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم، وانكشف أمر القاتل وأمر حيرتهم التي أطال تعنتهم بها.

    سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم، السياق القرآني يورد ذلك عن طريق، تكرارهم لكلمة "ربك" التي يخاطبون بها موسى، كان الأولى أن يقولوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) أو ادع لنا ربنا، كأنهم يقصرون ربوبية الله تعالى على موسى، ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية لله، آيات توحي بهذا كله ... تأملوا سخرية السياق منهم لمجرد إيراده لقولهم: (الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وإيابا بينهم وبين الله عز وجل، أرهقوا نبيهم عن صفة البقرة ولونها وسنها وعلاماتها المميزة. ساعتها قالوا له: "الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ".

    كأنه كان يلعب قبلها معهم، ولم يكن ما جاء هو الحق من أول كلمة لآخر كلمة، انظروا إلى ظلال السياق وما تشي به من ظلمهم: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) توحي الآيات بتعنتهم وتسويفهم ومماراتهم ولجاجتهم في الحق، هذه اللوحة الرائعة تشي بموقف بني إسرائيل على موائد المفاوضات، هي صورتهم على مائدة المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى آنذاك !!!

    إيذاء بني إسرائيل لموسى: موسى عليه السلام ،، قاسى من قومه وعانى عناء عظيما، واحتمل في تبليغهم رسالته ما احتمل في سبيل الله، مشكلة موسى أنه بُعث إلى قوم طال عليهم العهد بالهوان والذل، طال بقاؤهم في جو يخلو من الحرية، طال مكثهم وسط عبادة الأصنام، نجحت مؤثرات عديدة في خلق نفسية ملتوية مهزومة لا تصلح لشيء، نجحت في تعذب أنبيائها ومصلحيها مر الزمن.

    عذب بنو إسرائيلُ موسى، عذبوه عذابا يؤلم أدراك وقعه على نفس موسى النقية الكريمة، لم يقتصر العذاب على العصيان والغباء واللجاجة والجهل وعبادة الأوثان، وإنما تعدى الأمر إلى إيذاء موسى في شخصه عليهم السلام، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) الأحزاب 69 بالطبع نحن اليوم لا نعرف كنه هذا الإيذاء !!! ونستبعد رواية بعض العلماء التي تقول: أن موسى كان رجلا (حييا) يغمره الحياء، كان رجلاً (يستتر) دائما ولا يحب أن يرى أحد من الناس جسده، فاتهمه اليهود بأنه مصاب بمرض جلدي أو برص، فأراد الله أن يبرئه مما قالوا، فذهب يستحم يوما ووضع ثيابه على حجر، ثم خرج فإذا الحجر يجري بثيابه، وموسى يجري وراء الحجر عاريا، حتى شاهده بنو إسرائيل عاريا، وليس بجلده عيب.

    نستبعد هذه القصة لتفاهتها فإنها إلى جوار خرافة جري الحجر بملابسه لا تعطي موسى حقه من التوقير وهي تتنافى مع عصمته كنبي، اليهود آذوا موسى إيذاء نفسيا يدمي النفوس ويجرحها حقا رغم أننا لا نعرف كيف كان هذا الإيذاء، نستطيع تخيل التمادي الآثم الذي بلوغه بنو إسرائيل في إيذائهم له.

    فترة التيه: لعل أعظم إيذاء لموسى على أقل تقدير، كان رفض بني إسرائيل القتال من أجل نشر عقيدة التوحيد، أو السماح لهذه العقيدة أن تستقر على الأرض في مكان، لقد رفض بنو إسرائيل القتال ،، وقالوا لموسى: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة 24 بهذه النفسية حكم الله عليهم بالتيه أربعين عاما كاملة
    فمكث بنو إسرائيل في التيه حتى فني الجيل بأكمله، جيل خائر مهزوم من الداخل وولد جيل جديد، جيل لم يتربى وسط جو وثني ولم تشل روحه العبودبة، جيل مستعدا لدفع ثمن آدميته وكرامته من دمائه، جيل لا يقول لموسى (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).

    جيل آخر يتبنى قيم الشجاعة كجزء من نسيج ديانة التوحيد, ولد هذا الجيل وسط تيه الأربعين عاما، قدر لموسى زيادة في معاناته ورفعا لدرجته عند الله، قدر له ألا تكتحل عيناه بمرأى هذا الجيل الجديد.

    موسى والعبد الصالح: قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) الكهف 60 كان لموسى هدف من رحلته هذه التي اعتزمها، كان يقصد من ورائها أمرا، وهو تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن زمن الوصول، يعبر عن هذا التصميم قائلا: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) - القرآن الكريم لا يحدد المكان الذي وقت فيه الحوادث، ولا يحدد التاريخ، ولم يصرح بالأسماء، ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى، أهو: (نبي)، (رسول)، (عالم) أم (ولي)؟

    اختلف المفسرون في تحديد المكان، قيل إنه بحر فارس والروم، وقيل بحر الأردن أو القلزم، وقيل عند طنجة، وقيل في أفريقيا، وقيل هو بحر الأندلس، فالدليل لا يقوم على صحة أياً من هذه الأمكنة ،، فلو كان تحديد المكان مطلوبا ،، لحدده الله سبحانه تعالى، وإنما أبهم السياق القرآني المكان، كما أبهم تحديد الزمان، كما أغفلت أسماء الأشخاص لحكمة عليا

    القصة تتعلق بـ (علم ) ليس هو علمنا القائم على الأسباب، وليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي، إنما نحن أمام علم من طبيعة غامضة أشد الغموض، علم القدر الأعلى، وذلك علم أسدِلت عليه أستار كثيفة .. مكان اللقاء مجهول وزمان اللقاء غير معروف هو الآخر، لا نعرف متى تم لقاء موسى بهذا العبد

    هكذا تمضي القصة ،، تمضي دون تحديد سطور مكان وقوع الأحداث ولا زمانها، يخفي السياق القرآني أيضا اسم أهم أبطالها، يشير إليه الحق تبارك وتعالى بقوله: (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا) (فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً) الكهف 65 هو عبد أخفى السياق القرآني اسمه، هو عبد يبحث عنه موسى ليتعلم منه.

    خص الله تعالى نبيه الكريم موسى عليه السلام بأمور، هو كليم الله عز وجل، وأحد أولي العزم من الرسل، وصاحب معجزة العصا واليد، والنبي الذي أنزلت عليه التوراة دون واسطة، كلمه الله تكليما، هذا نبي عظيم يتحول في القصة إلى طالب علم متواضع يحتمل أستاذه ليتعلم.

    ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه، وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هو الخضر عليه السلام، كما حدثتنا أن الفتى هو يوشع بن نون، ويسير موسى مع العبد، العبد الذي يتلقى علمه من الله بغير أسباب التلقي الني نعرفها، ومع منزلة موسى العظيمة إلا أن الخضر يرفض صحبة موسى، يفهمه أنه لن يستطيع معه صبرا، ثم يوافق على صحبته بشرط، ألا يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه

    الخضر هو الصمت المبهم ذاته، إنه لا يتحدث، وتصرفاته تثير دهشة موسى العميقة، هناك تصرفات يأتيها الخضر، تصرفات ترتفع أمام عيني موسى، تصرفات حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث، من بينها تصرفات تبدو لموسى بلا معنى، وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارضته، ورغم علم موسى ومرتبته، فإن موسى يجد نفسه في حيرة عميقة، حيرة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه الله من لدنه علما.

    لقد اختلف العلماء في الخضر: فيهم من يعتبره وليا من أولياء الله، وفيهم من يعتبره نبيا، وقد نسجت الأساطير نفسها حول حياته ووجوده، فقيل إنه لا يزال حيا إلى يوم القيامة، وهذه قضية لم ترد بها نصوص أو آثار يوثق فيها. لا نقول فيها إلا أنه مات كما يموت عباد الله، وتبقى قضية ولايته، أو نبوته، دعونا نؤجل الحديث في هذه القضية حتى ننظر في قصته كما أوردها القرآن الكريم.

    قام موسى خطيبا في بني إسرائيل، يدعوهم إلى الله ويحدثهم عن الحق، جاء حديثه جامعا مانعا رائعا، بعد أن انتهى من خطابه، سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل: هل على وجه الأرض أحد اعلم منك يا نبي الله؟ قال موسى متحمساً: ( لا ) وساق الله تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبريل يسأله: يا موسى ما يدريك أين يضع الله علمه؟ أدرك موسى أنه تسرع، وعاد جبريل عليه السلام، يقول له: إن لله عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.

    تاقت نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم، وانعقدت نيته على الرحيل لمصاحبة هذا العبد العالم، سأل كيف السبيل إليه، فأمر أن يرحل، وأن يحمل معه حوتا: (سمكة) في مكتل: (سلة)، وفي هذا المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرب في البحر، سيجد العبد العالم، انطلق موسى ( طالب العلم ) ومعه فتاه، وقد حمل الفتى حوتا في سلة، انطلقا بحثا عن العبد الصالح العالم، ليست لديهم أي علامة عن مكان وجود العالم سوى: معجزة ارتداد الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر.

    يظهر عزم موسى عليه السلام على العثور على هذا العبد العالم ،، ولو اضطره الأمر إلى أن يسير حقبا من الزمن ،، قيل أن الحقب عام، وقيل أن الحقبة ثمانون عاما، وهذا مجاز للتعبير عن تصميم موسى عليه السلام، وليس عن المدة على وجه التحديد.

    وصل الاثنان إلى صخرة جوار البحر، رقد موسى واستسلم للنعاس، وبقي الفتى ساهرا، وألقت الرياح إحدى الأمواج على الشاطئ، فأصاب الحوت رذاذ فدبت فيه الحياة وقفز إلى البحر، (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا)، تسرب الحوت إلى البحر، كان علامة أعلم الله بها موسى، لتحديد مكان لقائه بالعبد الصالح،، الرجل الحكيم الذي جاء موسى يتعلم منه

    نهض موسى من نومه ولم يلاحظ أن الحوت تسرب إلى البحر ونسي فتاه الذي يصحبه أن يحدثه عما وقع للحوت، وسار موسى مع فتاه بقية يومهما وليلتهما وقد نسيا حوتهما، ثم تذكر موسى غداءه وحل عليه التعب ،، فقال:(فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً) الكهف 62 ولمع في ذهن الفتى ما وقع

    عندها ،، تذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر هناك، وأخبر موسى بما وقع، واعتذر إليه بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما وقع، رغم غرابة ما وقع حيث مرق الحوت إلى البحر بشكل عجيب (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) الكهف 61 كان أمرا عجيبا ما رآه يوشع بن نون، لقد رأى الحوت يشق الماء فيترك علامة، وكأنه طير يتلوى على الرمال، سعد موسى من مروق الحوت إلى البحر وقال: هذا ما كنا نريده (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً) الكهف 64 حيث تسرب الحوت يحدد المكان الذي سيلتقي فيه بالرجل العالم ويرتد موسى وفتاه يقصان أثرهما عائدين

    لاحظوا بداية القصة، وكيف تجيء غامضة أشد الغموض، مبهمة أعظم الإبهام، أخيرا وصل موسى إلى المكان الذي تسرب منه الحوت وصلا إلى الصخرة التي ناما عندها وتسرب عندها الحوت من السلة إلى البحر وهناك وجدا رجلا. يقول البخاري: إن موسى وفتاه وجدا الخضر مسجى بثوبه وقد جعل طرفه تحت رجليه وطرف تحت رأسه

    فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرضك سلام ؟ من أنت ؟ قال موسى: أنا موسى، قال الخضر: موسى بني إسرائيل ،، عليك السلام يا نبي إسرائيل، قال موسى: وما أدراك بي؟ قال الخضر: الذي أدراك بي ودلك علي ،، ماذا تريد يا موسى؟

    قال موسى ملاطفا مبالغا في التوقير: هل أتبعك على أن تعلمن (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) الكهف 66 قال الخضر: أما يكفيك أن التوراة بيديك ،، وأن الوحي يأتيك ؟ يا موسى (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الكهف 67 قارنوا الفرق بين سؤال موسى المغالي في الأدب مع الرد الحاسم من الخضر.

    موسى يفهم أن علم الخضر لا ينبغي له أن يعرفه، كما أن علم موسى هو علم لا يعرفه الخضر ،، يقول المفسرون إن الخضر قال لموسى: إن علمي أنت تجهله، ولن تطيق عليه صبرا لأن الظواهر التي ستحكم بها على علمي لن تشفيك ولن تعطيك تفسيرا، وربما رأيت في تصرفاتي ما لا تفهم له سببا أو تدري له علة (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) الكهف 68 وبذلك لن تصبر على علمي يا موسى.

    احتمل موسى كلمات الصد القاسية وعاد يرجوه أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه وقال له موسى إنه سيجده إن شاء الله صابرا لا يعصي له أمرا، تأملوا كيف يتواضع كليم الله وكيف يؤكد للعبد المدثر بالخفاء أنه لن يعصي له أمرا (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) الكهف69

    قال الخضر لموسى هناك شرطا يشترطه لقبول أن يصاحبه، ويتعلم منه هو ألا يسأله عن شيء حتى يحدثه هو عنه (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) الكهف 70 فوافق موسى على الشرط وانطلقا، انطلق موسى مع الخضر، انطلقا يمشيان على ساحل البحر

    مرت سفينة .. فطلب الخضر وموسى من أصحابها أن يحملوهما، وعرف أصحاب السفينة الخضر فحملوه، وحملوا موسى بدون أجر إكراما للخضر، وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها، فوجئ بأن الخضر يتخلف فيها، لم يكد أصحابها يبتعدون حتى بدأ الخضر يخرق السفينة، اقتلع لوحا من ألواحها وألقاه في البحر فحملته الأمواج بعيدا (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) الكهف 71

    فاستنكر موسى فعلة الخضر لقد حملنا أصحاب السفينة بغير أجر ،، وأكرمونا. وها هو ذا يخرق سفينتهم ويفسدها كان التصرف من وجهة نظر موسى معيبا وغلبت طبيعة موسى المندفعة عليه كما حركته غيرته على الحق فاندفع يحدث أستاذه ومعلمه وقد نسي شرطه الذي اشترطه عليه: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا)

    وهنا يلفت العبد الرباني نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه لأنه لن يستطيع الصبر عليه قائلاً: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) الكهف 72 ويعتذر موسى بالنسيان ويرجوه ألا يؤاخذه وألا يرهقه (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) الكهف 73

    سارا معا ... فمرا على حديقة يلعب فيها صبيان، حتى إذا تعبوا من اللعب انتحى كل واحد منهم ناحية واستسلم للنعاس، (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً) الكهف 74 فوجئ موسى بأن العبد الرباني يقتل غلاما ويثور موسى سائلا عن الجريمة التي ارتكبها هذا الصبي ليقتله هكذا، يعاود العبد الرباني تذكيره بأنه أفهمه أنه لن يستطيع الصبر عليه، (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا) الكهف 75

    ويعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود الأسئلة وإذا سأله مرة أخرى سيكون من حقه أن يفارقه (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا) 76 ومضى موسى مع الخضر، ونفذ ما معهما من الطعام، دخلا قرية بخيلة، لا يعرف موسى سبب دخولهما لها، ولا يعرف لماذا يبيتان فيها، وجاء عليهما المساء فاستطعما أهل القرية فأبوا، وأوى الاثنان إلى خلاء فيه جدار يتهاوى يكاد يهيم بالسقوط، وفوجئ موسى بأن العابد يقضي الليل في إصلاح الجدار من جديد، ويندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه، قرية لا يستحق من فيها هذا العمل المجاني (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) الكهف 77 انتهى الأمر بهذه العبارة. قال العبد الصالح لموسى: (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً) الكهف 78

    لقد حذر العبد الرباني موسى من مغبة السؤال، وجاء دور التفسير الآن... كل تصرفات العبد الرباني أثارت موسى وحيرته، لم يكن حين فعلها تصدر عن أمره، كان ينفذ إرادة عليا، وكانت لهذه الإرادة العليا حكمتها الخافية، وكانت التصرفات يتم تنفيذها بقسوة ظاهرة، بينما تخفي حقيقتها رحمة حانية، هكذا تخفي الكوارث أحيانا في الدنيا جوهر الرحمة، هكذا ترتدي النعم ثياب المصائب وتجيد التنكر، هكذا يتناقض ظاهر الأمر وباطنه، لا يعلم موسى غير قطرة من علم العبد الرباني، ولا يعلم العبد من علم الله مقدار قطرة من ماء البحر.

    كشف العبد الرباني لموسى شيئين في الوقت نفسه، كشف لموسى أن علم موسى محدود، كشف له أيضاً عن مصائب تتخفي وراءها رحمة عظمى

    إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم، بينما هي نعمة تتخفى في زي مصيبة، نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إلا بعد أن تنشب الحرب، ويصادر الملك كل السفن الموجودة غصبا، ثم يفلت هذه السفينة التالفة المعيبة، وبذلك يبقى مصدر رزق الأسرة عندهم كما هو، فلا يموتون جوعا، (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) الكهف 79

    أيضا سيعتبر والد الطفل المقتول وأمه، سيعتبرون أن كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء، غير أن موته يمثل بالنسبة لهما رحمة عظمى، فإن الله سيعطيهما بدلا منه غلاما يرعاهما في شيخوختهما، غلاماً لا يرهقهما طغيانا وكفرا كالغلام المقتول (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً) الكهف80

    هكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة وترتدي الرحمة قناع الكارثة ويختلف ظاهر الأشياء عن باطنها حتى ليحتج نبي الله موسى إلى تصرف يجري أمامه ثم يستلفته عبد من عباد الله إلى حكمة التصرف ومغزاه ورحمة الله الكلية التي تخفي نفسها وراء أقنعة عديدة.

    أما الجدار الذي أتعب نفسه بإقامته، من غير أن يطلب أجرا من أهل القرية، كان يخبئ تحته كنزا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة، ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز، فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه، ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً) الكهف 82

    ثم ينفض الرجل يده من الأمر، فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف، وهو أمر الله سبحانه وتعلى وليس أمره، فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه - واختفى هذا العبد الصالح، لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول، إلا أن موسى تعلم من صحبته درسين مهمين:

    تعلم موسى ألا يغتر بعلمه في الشريعة فهناك علم الحقيقة

    وتعلم ألا يتجهم قلبه لمصائب البشر، فربما تكون يد الرحمة الخالقة تخفي سرها من اللطف والإنقاذ، والإيناس وراء أقنعة الحزن والآلام والموت، هذه دروس تعلمها موسى كليم الله عز وجل ورسوله من هذا العبد المدثر بالخفاء.

    من يكون صاحب هذا العلم إذن، أهو ولي أم نبي... يرى كثير من الصوفية أن هذا العبد الرباني ولي من أولياء الله تعالى أطلعه الله على جزء من العلم (علمه اللدني) بغير أسباب انتقال العلوم المعروفة. ويرى بعض العلماء أن هذا العبد الصالح كان نبيا ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن سياق القصة يدل على نبوته من وجوه:

    الأول: قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) الكهف65

    الثاني: قول موسى له: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) الكهف

    فلو كان وليا ولم يكن نبي، لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرد على موسى هذا الرد. ولو أنه كان غير نبي، لكان هذا معناه أنه ليس معصوما، ولم يكن هناك دافع لموسى، وهو النبي العظيم، وصاحب العصمة، أن يلتمس علما من ولي غير واجب العصمة

    الثالث: أن الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام بوحي من الله وأمر منه، وهذا دليل مستقل على نبوته وبرهان ظاهر على عصمته، لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده، لأن خاطره ليس بواجب العصمة، إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق، وإذن ففي إقدام الخضر على قتل الغلام دليل نبوته.

    الرابع: قول الخضر لموسى: (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ،، يعني أن ما فعلته لم أفعله من تلقاء نفسي، بل أمر أمرت به من الله وأوحي إلي فيه. فرأى العلماء أن الخضر نبيا، أما العباد والصوفية رأوا أنه وليا من أولياء الله. ومن كلمات الخضر التي أوردها الصوفية عنه ،، قول وهب بن منبه: قال الخضر: يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها. وقول بشر بن الحارث الحافي ،، قال موسى للخضر: أوصني ،، قال الخضر: يسر الله عليك طاعته.

    يقول علماء هذا العصر: قد نميل إلى اعتباره نبيا لعلمه اللدني، غير أننا لا نجد نصا في سياق القرآن على نبوته، ولا نجد نصا مانعا من اعتباره وليا آتاه الله بعض علمه اللدني.. ولعل هذا الغموض حول شخصه الكريم جاء متعمدا، ليخدم الهدف الأصلي للقصة ،، ولسوف نلزم مكاننا فلا نتعداه ونختصم حول نبوته أو ولايته ،، وإن أوردناه في سياق أنبياء الله، لكونه معلما لموسى ،، وأستاذا له فترة من الزمن.

    قارون وقوم موسى: يروي لنا القرآن قصة قارون، وهو من قوم موسى. لكن القرآن لا يحدد زمن القصة ولا مكانها. فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟ أو وقعت بعد الخروج في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ وبعيدا عن الروايات المختلفة، نورد القصة كما ذكرها القرآن الكريم.

    يحدثنا الله عن كنوز قارون فيقول سبحانه وتعالى إن مفاتيح الحجرات التي تضم الكنوز، كان يصعب حملها على مجموعة من الرجال الأشداء. ولو عرفنا عن مفاتيح الكنوز هذه الحال، فكيف كانت الكنوز ذاتها؟! لكن قارون بغى على قومه بعد أن آتاه الله الثراء. ولا يذكر القرآن فيم كان البغي، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم. وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال. حق الفقراء في أموال الأغنياء. وربما بغى عليهم بغير هذه الأسباب.

    ويبدو أن العقلاء من قومه نصحوه بالقصد والاعتدال، وهو المنهج السليم. فهم يحذروه من الفرح الذي يؤدي بصاحبه إلى نسيان من هو المنعم بهذا المال، وينصحونه بالتمتع بالمال في الدنيا، من غير أن ينسى الآخرة، فعليه أن يعمل لآخرته بهذا المال. ويذكرونه بأن هذا المال هبة من الله وإحسان، فعليه أن يحسن ويتصدق من هذا المال، حتى يرد الإحسان بالإحسان. ويحذرونه من الفساد في الأرض، بالبغي، والظلم، والحسد، والبغضاء، وإنفاق المال في غير وجهه، أو إمساكه عما يجب أن يكون فيه. فالله لا يحب المفسدين.

    فكان رد قارون جملة واحد تحمل شتى معاني الفساد (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي). لقد أنساه غروره مصدر هذه النعمة وحكمتها، وفتنه المال وأعماه الثراء. فلم يستمع قارون لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه.

    وخرج قارون ذات يوم على قومه، بكامل زينته، فطارت قلوب بعض القوم، وتمنوا أن لديهم مثل ما أوتي قارون، وأحسوا أنه في نعمة كبيرة. فرد عليهم من سمعهم من أهل العلم والإيمان: ويلكم أيها المخدوعون، احذروا الفتنة، واتقوا الله، واعلموا أن ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عند قارون.

    وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، تتدخل القدرة الإلهية لتضع حدا للفتنة، وترحم الناس الضعاف من إغراءها، وتحطم الغرور والكبرياء، فيجيء العقاب حاسما (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) هكذا في لمحة خاطفة ابتلعته الأرض وابتلعت داره. وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال.

    وبدأ الناس يتحدثون إلى بعضهم البعض في دهشة وعجب واعتبار. فقال الذين كانوا يتمنون أن عندهم مال قارون وسلطانه وزينته وحظه في الدنيا: حقا إن الله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويوسع عليهم، أو يقبض ذلك، فالحمد لله أن منّ علينا فحفظنا من الخسف والعذاب الأليم. إنا تبنا إليك سبحانك، فلك الحمد في الأولى والآخرة.

    وفاته عليه السلام وقبره: توفي موسى عليه السلام على جبل (نيبو) قرب (مأدبا) بالأردن، حسب (العهد القديم) نظر إلى الأرض المقدسة للمرة الأخيرة، من جبل (نيبو) أفضل الأماكن المرتفعة للمراقبة ومات، يوجد بقمة الجبل كنيسة قديمة يُعتقد أن النبي موسى دفن فيها

    تروي أساطير عديدا من الحكايات حول موت موسى، منها أنه ضرب ملك الموت حين جاء يقبض روحه، فأمثال هذه الروايات كثيرة، لا يجب الخوض في هذه الروايات تجنبا من الانجراف وراء الإسرائيليات، ويقال ان موسى عليه السلام مات في التيه، وتولى يوشع بن نون أمر بني إسرائيل.

    مات هارون قبل موسى بزمن قصير واقترب أجل موسى عليه السلام وكان لم يزل في التيه، أحب موسى عليه السلام أن يموت قريبا من الأرض التي هاجر إليها، وحث قومه عليها، ولكنه لم يستطع، ودفن عند كثيب أحمر حدث عنه آخر أنبياء الله في الأرض حين أسرى به. قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان قومه يؤذونه في الله: "قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر".

    التعديل الأخير تم بواسطة محمد بن سعد ; September 2nd, 2009 الساعة 01:27
    كل شيء غير ربك والعمل
    لو تزخرف لك مرده للزوال

    ما يدوم العز عز الله وجـل
    في عدال ما بدا فيه امتيـال

  5. #5
    المشرف العام الصورة الرمزية محمد بن سعد
    تاريخ التسجيل
    Apr 2008
    الدولة
    السعودية، الرياض
    العمر
    71
    المشاركات
    10,545
    مقالات المدونة
    2
    معدل تقييم المستوى
    10

    افتراضي آثار موسي عليه السلام رب العزة سبحانه

    هناك اعتقاد بان هذه هي
    عصا موسى عليه السلام




    هناك اعتقاد بان هذا هو
    غار كلم موسي عليه السلام رب العزة سبحانه
    كل شيء غير ربك والعمل
    لو تزخرف لك مرده للزوال

    ما يدوم العز عز الله وجـل
    في عدال ما بدا فيه امتيـال

  6. #6
    المشرف العام الصورة الرمزية محمد بن سعد
    تاريخ التسجيل
    Apr 2008
    الدولة
    السعودية، الرياض
    العمر
    71
    المشاركات
    10,545
    مقالات المدونة
    2
    معدل تقييم المستوى
    10

    افتراضي الوادي المقدس

    الوادي المقدس الذي كلم موسي عليه السلام الله سبحانه وتعالي

    كل شيء غير ربك والعمل
    لو تزخرف لك مرده للزوال

    ما يدوم العز عز الله وجـل
    في عدال ما بدا فيه امتيـال

  7. #7
    المشرف العام الصورة الرمزية محمد بن سعد
    تاريخ التسجيل
    Apr 2008
    الدولة
    السعودية، الرياض
    العمر
    71
    المشاركات
    10,545
    مقالات المدونة
    2
    معدل تقييم المستوى
    10

    افتراضي بني إسرائيل : تغسير الشيخ متولي الشعراوي

    كل شيء غير ربك والعمل
    لو تزخرف لك مرده للزوال

    ما يدوم العز عز الله وجـل
    في عدال ما بدا فيه امتيـال

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 7 (0 من الأعضاء و 7 زائر)

مواقع النشر

مواقع النشر

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

تنفيذ شركة تصميم مواقع الانترنت توب لاين
روابط مهمه روابط مهمه تواصل معنا
تواصل معنا