لندن - هشام محمود (الإقتصادية) : على مدار العقود الأربعة الماضية، أفلحت الصين بفضل مجموعة من العوامل، على أن تحول نفسها إلى "مصنع العالم"، وباتت قوة تصنيعية رئيسة تمد المجتمعات الأخرى باحتياجاتها.



ويأتي في مقدمة تلك العوامل العمالة ذات الأجور المنخفضة، والنجاح في تأسيس بنية تحتية جيدة وعصرية، وتبنى مجموعة من السياسات الاقتصادية الجاذبة للاستثمارات الخارجية، والمشجعة لرؤوس الأموال الصينية على الاستثمار.

ومع هذا، فإن أحد أبرز العوامل التي أدت إلى هذا النجاح، ويتم غالبا تجاهلها في الأدبيات الاقتصادية، يعود إلى السياسات الصينية في مجال صناعة "إعادة التدوير"، والتي حولت الصين إلى قبلة العالم للنفايات القابلة لإعادة التدوير.

فخلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، لم يكن لدى المصنعين ورجال الأعمال الصينيين سوى خيارات قليلة للمواد الخام المتاحة.

فالدولة كانت تحتكر أغلب إن لم يكن جميع الموارد الطبيعية، وكانت تلك المواد حكرا على الشركات والمصانع التابعة للحكومة، وليست متاحة للشركات الخاصة الصغيرة، وإذا أتيحت بشكل استثنائي للشركات الخاصة فإن ذلك يحدث بأسعار مرتفعة للغاية، تجعل العملية الإنتاجية مكلفة وغير مربحة، ولذلك منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي بدأ رجال الصناعة الصينيون في استراد المواد غير المرغوب فيها من مختلف الدول، وبأسعار زهيدة، لتتم إعادة تدويرها واستخدامها مرة أخرى في نشاطهم الصناعي.



لكن العملية التي بدأت بهدف خدمة الصناعة الصينية، سريعا ما تحولت إلى نشاط تجاري منفصل يدر الملايين ولاحقا المليارات.

ويقول إل. إس بلاك كونرد لـ "الاقتصادية"، المدير التنفيذي لقسم إعادة التدوير في شركة "بيفا" البريطانية، :"على المستوى الدولي يتم تدوير 600 مليون طن من المواد القابلة للتدوير سنويا، وتبلغ القيمة المالية الإجمالية للنفايات التي يتم تدويرها سنويا نحو 200 مليار دولار أي ما يوازي الناتج المحلي الإجمالي لبلدان مثل البرتغال أو كولومبيا أو ماليزيا، وقد بات هذا القطاع جزء أساسيا في عملية التنمية المستدامة، ونحو 10 في المائة من المواد المعاد تدويرها يستخدم في القطاع التكنولوجي".

وبشأن الصين يضيف كونرد:" لا شك أن الصين تعد حجر الزاوية الرئيس في تلك الصناعة، وإذا كانت الفكرة قد بدأت بالنسبة للصينين كمخرج للمستثمرين في القطاع الصناعي لتوفير مواد صناعية رخيصة الثمن، فسريعا ما تحولت إلى نشاط تجاري كبير، وخلال التسعينيات كان نصف صناعة الورق الصينية يعتمد على المواد المعاد تدويرها، وشكلت الخردة المستوردة ثلث إنتاج الصين من النحاس. وقد أسهمت تلك الصناعة التي امتدت إلى قطاعات متعددة في استيعاب جزء ملموس من قوة العمل الصينية بلغ نحو 1.5 مليون شخص، ودعمت 10 ملايين وظيفة في مجالات أخرى، وهذا التطور لم يكن جيدا للصين فقط، بل كان جيدا جدا للبيئة وللاقتصاد العالمي ككل".

إلا أن هذا الوضع الذي استمر لعقود بات الآن محل نظر من قبل الصين مسببا قلقا دوليا، فقد بدأت الصين أخيرا ولأسباب بيئية في حظر بعض المواد القابلة للتدوير، من بينها 24 نوعا من النفايات الصلبة تتضمن أنواعا من البلاستيك ومخلفات الصلب وقطع غيار السيارات المستعملة والسفن القديمة.

وترمي تلك السياسة إلى إرضاء الوعي الجماهيري المتزايد بشأن المخاطر البيئية، إلا أنها تمثل تحديا اقتصاديا بالنسبة لعديد من الدول التي اعتادت لسنوات على التخلص مما لديها من نفايات وخاصة البلاستيكية منها عبر تصديرها للصين.



ويعتقد بعض الاقتصاديين أن القرار الصيني قد يمثل لدول جنوب شرق وجنوب آسيا مثل الفلبين وإندونيسيا وتايلاند وماليزيا والهند وباكستان فرصة جيدة بالنسبة لها، للتركيز على صناعة إعادة التدوير لديها، واحتلال موقع الصين، إلا أن الأمر لا يبدو من وجهة نظر البعض بهذه السهولة.

ويوضح لـ "الاقتصادية"، المهندس جيمس بروك من المكتب الدولي لإعادة التدوير، أن"الصين ونتيجة لسنوات من العمل في ذلك المجال، امتلكت بنية أساسية غير متوافرة في معظم بلدان العالم للتعامل مع المواد القابلة لإعادة التدوير، ومن ثم تقليص الصين لنشاطها الاقتصادي في هذا المجال، وعدم جاهزية البلدان الأخرى لاحتلال مكانها سيخلق مشكلة نفايات عالمية، وخاصة في البلدان المتقدمة التي اعتادت على بيع تلك النفايات للصين، فنحو31 في المائة من الخردة الأمريكية ترسل إلى الصين لإعادة التدوير".

وأشار بروك إلى أن "الولايات المتحدة شحنت في عام 2016 أكثر من 16 مليون طن من السلع الخردة إلى الصين بقيمة أكثر من 5.2 مليار دولار، وكل المواد البلاستيكية المعاد تدويرها في بريطانيا ترسل إلى الصين أو هونج كونج للمعالجة، والاتحاد الأوروبي يصدر نصف المواد البلاستيكية التي تم جمعها وفرزها ونحو 85 في المائة من صادراته يذهب إلى الصين، بينما صدرت آيرلندا وحدها 95 في المائة من نفايتها البلاستكية للصين عام 2016".

ويضيف بروك "صناعة التدوير لا شك أنها قذرة وملوثة للبيئة ولكن مقارنة بالتلوث الناجم عن المناجم والمصافي وإزالة الغابات فإن صناعة إعادة التدوير تعد الخيار الأفضل".

ويعتقد البعض أن الدول الراغبة في أن تحل محل الصين في تلك الصناعة ستفشل في تحقيق ذلك بسبب تكلفة تصدير النفايات إليها، فأغلب النفايات المرجو إعادة تدويرها تصدر إلى الصين بتكلفة زهيدة للغاية لسبب بسيط، وهو أن السفن المحملة بالبضائع الصينية، لا ترغب بعد إفراغ حمولتها في الدول المتقدمة، في العودة إلى الصين فارغة، فتقبل بنقل تلك النفايات بمقابل مادي بسيط للغاية، وهذا الأمر لا يتوافر في وضع المنافسين الجدد، وذلك لأن صادراتهم للبلدان المتقدمة محدودة للغاية مقارنة بالصادرات الصينية، ومن ثم فإن تكلفة تصدير النفايات لهم ستكون مكلفة.

إلا أن آخرين ينظرون للأمر من زاوية مختلفة، ويعتقدون أن بكين لن تتخلى عن صناعة التدوير، بقدر ما أنها ستصبح أكثر تخصصا عبر الابتعاد عن تدوير المواد منخفضة الجودة والأكثر تلوثا، بينما ستواصل تركيزها على المواد عالية الجودة القابلة للتدوير.

ويعتقد أن تلك الخطوة من جانب الصين، إما ستدفع الدول المتقدمة إلى ضخ عشرات وربما مئات الملايين من الدولارات لتطوير تقنيات التدوير لديها، أو أنها ستعمل على مساندة دول العالم الثالث على تطوير صناعة إعادة التدوير فيها وتصدير النفايات إليها لإعادة تدويرها على أراضيها.

ويوضح لـ "الاقتصادية"، تيلر دين رئيس القسم الخارجي في شركة فيولا الدولية لإعادة التدوير، أن "فرض الصين قيودا أكثر صرامة على الواردات المعاد تدويرها، أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل ملحوظ في الصين بنسبة تصل في بعض المنتجات إلى أكثر من 10 في المائة، كما أن تكلفة التصنيع ارتفعت أيضا. أما خارج الصين فقد حدث العكس، نتيجة تكدس الأسواق بالمواد القابلة لإعادة التصدير وهذا أدى إلى زيادة الربحية".

ويستطرد تيلر دين قائلا "لكن هذا ربما تكون له تداعيات اقتصادية مستقبلية على البلدان الناشئة في جنوب شرق آسيا، فازدهار صناعة إعادة التدوير لديها سيضمن توافر مواد خام منخفضة الأسعار في الأسواق المحلية، وهذا أمر إيجابي للصناعات المحلية، إذ يمكن لنفايات العالم إذا أحسن استخدامها أن تكون مدخل تلك البلدان لإعادة التجربة الصينية وتحقيق الثراء والرخاء".