تونس - يسرى ونّاس (الأناضول) : بين آلاف الكتب المتراصة على درج شقة قديمة في "نهج الدباغين" بالعاصمة التونسية، وبين رُفوف تنوء تحت ثقل مجلدات يفوح منها عبق الزمن، يقف خالد شتيبة في حالة هيام أزلية مع مكتبته.



ففي هذا المكان، تتوقف عقارب الساعة عند عشق عابر للزمن، متحديا انسيابه السريع والغزو الالكتروني الذي حوّل اهتمام الناس إلى وجهة مختلفة وبعيدة عن النسخ الورقية للكتب والمجلات.

** الكتب القديمة.. قصة حياة
ثلاثون عاما من عمره قضاها خالد أو العم خالد كما يناديه الجميع هناك، في هذه الشقة المخصصة لبيع الكتب القديمة.

غير أن مراكمة الكتب عبر السنين جعل مساحة الشقة الصغيرة عاجزة عن استيعاب ذلك الكم الهائل من المجلدات، فكان أن قرر عرضها على قارعة الطريق، لتصبح بمثابة مكتبات صغيرة متناثرة على الرصيف.

"قصة حياة"، كما يقول خالد للأناضول، تجمعه برائحة الكتب القديمة، ورافقته في مسيرته اليومية، حتى باتت جزءا من حياته.

"هذه الكتب القديمة أصبحت جزءا مني فهي لا تقدر بأيّ ثمن"، يقول ونظراته تجوب الكتب القديمة التي بات لون البعض منها مائلا للاصفرار، قبل أن يضيف "أتنفس عبق حروفها وأزداد ولعا بها يوما بعد آخر".

عشق رافقه مُذ كان مراهقا عندما كان ينزوي في ركن على قارعة الطريق، ليعرض كتبه على المارة.

"كنت أبلغ من العمر حينها 15 عاما"، يتابع، حيث "كنت أغتنم تلك الفرصة للحصول على بعض الأموال لتغطية مصاريف دراستي، ولذلك كان عليّ أن أعمل أيام العطل".

ومنذ ذلك الحين، بدأت قصة خالد مع الكتب، ولم تنته حتى اليوم، كما يقول، ليحوّل رصيف "نهج الدباغين" إلى مكتبات صغيرة يجد فيها عشاق المطالعة كتبا نادرة يتجاوز عمرها الـ30 عاما، ويصعب العثور عليها في المكتبات الأخرى.

وبذات النظرات التائهة في الكتب المصفوفة بغير انتظام على الأرض، يضيف خالد: "إنها كتب قيّمة وثمينة، ولكنها معروضة على الرّصيف، وهنا تكمن ميزتها وخاصيتها."

ففي ذلك المكان، يمكن العثور على درر أدبية أو تاريخية "ثمينة" من حيث القيمة، إلا أن سعرها زهيد، حيث يتراوح بين 500 مليم (أقل من 0.02 دولار) إلى 50 دينار (نحو 20 دولار) أو أكثر بقليل.

ورغم أن بيع الكتب القديمة يشكل مصدر رزقه، إلا أن العلاقة الوثيقة التي أضحت تربطه ببعض الكتب، تجعله يرفض التفريط فيها، مشيرا أن حبه لها يمنعه من بيعها.



** مهنة شاقة ومتعبة
يقضي العم خالد سنوات بأكملها في انتظار قدوم زبائن ينفضون الغبار عن كتبه ويشترونها. مهنة شاقة وتتطلّب صبرا طويلا، خصوصا مع اكتساح الكتب الالكترونية للعالم، وعزوف القراء عن ابتياع النسخ الورقية.

ففي السابق، يقول، "كان عشاق المطالعة يقبلون على الكتب القديمة من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، من وزراء ومثقفين وشخصيات معروفة، فيملؤون قفافهم (سلال تقليدية مصنوعة من سعف النخيل) كتبا، أما اليوم فقد اختلف الأمر كثيرا".

رأي أيّده رمزي الطرخاني، وهو بائع كتب قديمة بسوق نهج الدباغين، والذي يرى بدوره أنّ "الإقبال على الكتاب القديم تراجع مقابل التطور التقني والتكنولوجي، حيث لم يعد يحظى باهتمام كبير خاصة لدى الفئات العمرية الشبابية."

علاقة رمزي بالكتب القديمة تلخصها 18 عاما أمضاها في دكانه الذّي يضم مئات العناوين في مختلف المجالات من أدب وفقه وفلسفة وعلوم وتقنيات وغيرها.

كتب أثقلت رفوف محله الصغير، فكان أن اتخذ من الرصيف مكانا يصففها في ركن منه، وأحيانا يتركها متراصة بغير انتظام.

وفي حديث للأناضول، اعتبر رمزي أنّ "بيع الكتب القديمة يتطلّب الكثير من الصبر والولع بالمطالعة والحب لهذه الكتب."

ويبتاع رمزي الكتب القديمة من شركات تونسية مختصة في توزيعها على محلات سوق الدباغين، أو يشتريها من مواطنين وأحيانا من مكتبات تصبح فيها هذه الكتب قديمة.



** آمال يكبّلها واقع صعب
ونظرا لتراجع الإقبال عن النسخ الورقية للكتب، بدأت مكتبات الرصيف تلك تفقد الكثير من بريقها، ليقرر عدد من أصحابها الانسحاب بهدوء، فيما يتحدى آخرون حتى اليوم الاجتياح الالكتروني والصعوبات المالية، رغبة في البقاء.

وبالنسبة لـ "رمزي"، فإن "غياب التشجيع من قبل السلطات هو ما حال دون وجود سوق قائمة الذات لبيع الكتب المستعملة في نهج الدباغين"، لافتا أن "كل ما ترونه هنا يشكل نتيجة اجتهادنا الخاص".

وتابع: "كانت السوق في السابق مزدحمة بباعة الكتب، إلا أن محلات لوازم الخياطة وبيع الأقمشة حلت محلها، وذلك بسبب غلاء استئجار الدكاكين والإيرادات المالية الضعيفة لبيع الكتب القديمة".

ودعا رمزي سلطات بلاده إلى "الاهتمام بهذا النشاط على غرار الأسواق الموجودة في كل من مصر والعراق وفرنسا، حيث يحظى قطاع بيع الكتب المستعملة بأهمية بالغة".

من جهته، عاد العم خالد ليعرب عن رغبته في أن "يطلق اسم شارع الثقافة على هذه السوق بدل الدباغين".

ورغم ضعف إيرادات بيع الكتب، إلا أن رمزي لم ينجح في الابتعاد عن مهنته، حتّى أن جميع محاولاته الرامية لتغيير نشاطه باءت بالفشل. ففي كل مرة، كان حنينه للكتب القديمة يعيده إليها.



** للسوق روادها رغم الصعوبات
بين أكداس الكتب المستعملة، وقفت الطالبة العشرينية، وفاء عبسي، تقلب بين راحتي يديها مؤلفات وروايات قديمة علّها تجد فيها ضالتها.

وعن سرّ وجودها في المكان، قالت وفاء للأناضول: "أميل كثيرا للكتب القديمة، صحيح أننا نجد كتبا في الإنترنيت بصيغ مختلفة، ولكن أن يكون الكتاب بين يديك فتلك متعة أخرى".

أما سمير، وهو خمسيني مولع بالمطالعة، وتستهويه بالخصوص الكتب الرياضية، فاعتبر من جانبه، أن "السوق شهدت انتعاشة ظرفية إبان الثورة (2011)، حيث لاحظت إقبالا وتعطشا كبيرين للكتب، غير أن هذه الرغبة سرعان ما تقلصت تدريجيا".

وتنتصب سوق "نهج الدّباغين" بقلب العاصمة التونسية، وقد كان هذا الشارع الصغير مخصصا، قبل أكثر من 3 عقود، لمحلات صباغة الجلود، والتي اكتسب منها اسمه، إلا أن هذه المحلات اندثرت وحلت مكانها دكاكين بيع الكتب القديمة والمستعملة.