الرياض - محمود توفيق (درة) : بثقلٍ واضحٍ وعرجةٍ خفيفةٍ أصابَتْها من تورُّم قدمَيْها، تتحامَلُ في مشيها بأسمالها البالية وهي تتَّكئ على عصًا، وأحيانًا أيضًا كانت تضع العصا على كتفيها وتحمل عليها يديها، رفْعُ يديها يُخفِّف عنها آلامًا سبَّبتها البثور التي نمتْ تحت الإبطَيْن بفعل الغبار والعرق والرطوبة، تمضي وهي تُقاوِم الوهن ولفْح الغبار وأحزانها، ذاهلةً في بعثرة السنين من خلفها، من تحت كرم النخيل الذي تلعب الريح بسعفه، ترفع رأسَها بمشقةٍ، تنظُر بعينين نصف مغمضتين قد آذَتْهما شمس العصر الهادئة والغبرة إلى رؤوس النخل التي مال جريدها مع الريح يُوشِك أنْ يُقتَلَع، كذيول أحصنةٍ منطلقةٍ كانطلاق الأيَّام، أحقًّا قد مَرَّ عشر سنواتٍ على غيابه؟!



كانت قد هامَتْ في ليل الكون وضُحاه، معتمدةً كثيرًا على النجوم وحدسها، وعلى سُكَّان النجوع الهاجعة المنبثَّة تحت قبَّة السماء الداكنة، وعلى أهل الأسواق الصاخبة بالنهار، حتى مَرَّ عليها الهلال، في طريقها إلى (الشيخ عبد) الذي انتشرَتْ أخبار كَراماته في جزيرة العرب، تحمل حمل السنين وحلمها وهي تُتَمتِم باسمه، لترمي حملها عند هذا الشيخ من شيوخ نجدٍ الأواخر، فقلبها الذي أدْماه الهمُّ يُحدِّثها بأنَّ زوجها الصيَّاد الذي ركب البحر إلى الهند منذ أعوامٍ حيٌّ يُرزَق.

ها هي أخيرًا، وبعد معاناة شهرٍ من تعب المسير ووحشة السفر، تنزل بلدة الشيخ، وعندما أشار لها المارَّة إلى موضعه القريب اعترَتْها رعدة نفضتْ عنها آلامها، واستبدَّ بها هُيام المؤمنين، وشعشع حولها ضوءٌ كالضوء الذي يَراه الصوفيُّون والمنذورون من شدَّة الرياضة، فيما كانت عصافير تُغرِّد فوق أشجار ليمونٍ عتيقةٍ، ومَضَتْ باتجاهه، تحثُّ الخُطَى إلى الخلاص، ومضتْ ومضتْ، ولم تكن تدري أنَّ شيخها الذي شقَّت الصحراء إليه حتى تقطَّعتْ سيور نعلها، وحتى أصابت البثور إبطَيْها، والذي تعشم بأنْ يعزم على الحوت والعنبر وكلِّ دابَّةٍ في البحر بألاَّ تقرب لحم زوجها، وأنْ يُسخِّر ملوك الجانِّ المتسلِّطين على البحار والجزائر لينبذوه إلى البرِّ سالِمًا، لم تكن تدري أنَّ ها هو شيخها يمرُّ بها مُلثَّم الوجه مطرودًا مذعورًا مرهقًا يُكلِّم نفسه، بِخُطًى ثقيلةٍ ولكن ليس في ثقل خُطاها، تقابَلا إذًا كحصانين هزيلين، كانا ينظُران تحت أقدامهما، حمحمتْ بهيام المؤمنين، ومن دون أنْ تلحظ مَن يمرُّ بها صهلتْ: أنا على الطريق يا (شيخ عبد)، ضيفةٌ أنا وطلبتُكَ، تركتُ بيتي وجئتك يا أبا العلوم، أعطني شيئًا لله من"حرز الجوشن" يعيد لي سميَّك زوجي (عبد).

فعل صوتها المشروخ فعله به، كأنَّه يأتيه من سردابٍ في أعماق أعماقه، نظر بجانب عينه إلى المرأة التي تمرُّ بجانبه وعصاها على كتفَيْها، فكَّ لثامه، مدَّ رقبتَه وشفتَيْه، تمامًا مثل حصانٍ قد أخذه شيءٌ من النشوة، أخَذ نفَسًا عميقًا وهو يغمض عينيه كمَن يشمُّ رائحةً زكيةً، وقد اختلطتْ مشاعر الحسرة والاعتزاز بالنفس والضياع واليأس ومشاعر أخرى لا اسم لها، فَوضَى من المشاعر في صدر الشيخ المهزوم وهو يسمع المديح الأخير والمريد الأخير، قبض على كتاب "حرز الجوشن" في جيبه كأنَّه يعتصره، أخفض رأسه للأرض وهزَّه، ومضى ينظُر تحت قدميه، إنَّه لا يعرف، مَن ادَّعى علمًا بالغيب لا يعرف أبدًا، لِمَ حرَّك صوت هذه المرأة أوتار قلبه المرتخية، ففلت من هذه الأوتار شجنٌ تعجَّب له؟! لعلها.. لعلها.. لعلها..

المسافة تتَّسع ما بين الهزيلين في فضاء نجدٍ، ولا زال صهيلها المشروخ تحمله الريح وهي تنادي: يا شيخ عبد، يا شيخ عبد، يا شيخ عبد، والصدى يُردِّد من وراء ذاك النداءِ الصهيلِ: عبد، عبد، عبد.



فيما صار ذرةً مهتزةً يبتلعها الأفق الأغبر، أطلَّتْ على كوخه الواقع في قعْر خربةٍ كئيبةٍ واسعةٍ، حِمَى الشيخ الذي لا يُنزَل إلاَّ بالخضوع، وبجوار الكوخ حريقٌ في كومةٍ من الكتب أوشك أنْ ينطَفِئ، بالقُرب من الحريق كلابٌ ذاويةٌ تُفتِّش في القمامة عن طَعامها، وتلهو وتقتحم كوخ الشيخ المستباح، تتشمَّم، وتَبُول على مُتَّكئه، هذا الذي كان يُحرِّم الحُبارَى وبيض الحُبارَى فلا يقربها سيدٌ ولا عبدٌ في حِماه، تبول الكلاب اليوم على متَّكئه!

هذا يوم ذلَّ فيه الشيخ حقًّا، وذلَّ فيه كلُّ من أذلَّ نفسه للشيخ، تشعر بالدوار، تضع يدها على فمها مخافةَ القيء، عالمٌ مهيبٌ ينقشع مثل ضَبابٍ هائلٍ لا وزن له، وتتبخَّر معه حِكاياتٌ مُتوارَثةٌ وظنونٌ، الشيخ نُفِخ فيه فطار مثل هباءةٍ، وستعود بغير شيءٍ غير الخيبة والعرجة والبثور.

تلتفت إلى جهة الشرق ولا زالتْ يدها على فمها إلى وقع سنابك خيلٍ يدمدم على الأرض، أطالَتِ النظر إلى أمَّةٍ من الرجال بِيض العمائم على خيلٍ رشيقةٍ تخلفهم سَحابةٌ، يذهَبُون بعيدًا في فَضاء نجدٍ، من مهمةٍ إلى مهمةٍ، في طريقهم إلى قبرٍ يُعبَد من دون الله بين الرياض ومنفوحةٍ، جند الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب، يصعدون ويهبطون على وجْه الصحراء الشاسعة، كسفينةٍ يحملها الموج، على متْنها التوحيد عاد بعد غيبةٍ.

انهمل المطر الذي قلَّما نزل صيفًا، ظَلَّتْ وحدَها تنظر إلى سفينة الإمامين ومحرقة الكتب تحت المطر، حتى اغتسل جسدها وقلبها، أخذت تبكي مرتجفة الشفتين، نكسَتْ رأسها بخزيٍ وهي تدعو ربها، تقطَّعت أنفاسها من شدَّة البكاء، خرَّت على الأرض، سجدتْ لله طويلاً تُناجِيه وقد اختلط دمعها بالرمل وماء المطر، يا رب، يا رب، يا رب.

نبَتَ في قلبها رضا وسكينةٌ، قامت ونفضتْ عن ثوبها الرمل الملتصق وابتسمت، ثم أخذت تضحك دامعةَ العينين من منظر الحمى المستباح، وضعت عَصاها على كتفَيْها، ورضيتْ بأنْ تقفل عائدةً بالإيمان وحدَه، سفينةٌ هي الآن أيضًا تحمل التوحيد.

عندما كانت على مشارف البلدة عشاءً هادئة البال، لم تكن تدري أنَّ زوجها عاد لبيته قبلها بفارق ساعاتٍ قليلةٍ، نَعِمَ فيها بأحضان الأهل والخلاَّن، تهرَّب فيها ببرودٍ وهو يلعب في ضفيرتَيْه من فضولهم وإلحاحهم لمعرفة ما جرى عليه وما صنعت به الأيَّام الخالية، حتى توارى إلى بيته، وإنه الآن وحدَه في صحن الدار المكشوف يشوي سمكةَ هامورٍ كبيرةً على الصاج وقد لثَّم وجهه اتِّقاءً للدخان، وفوق رأسه مصباحٌ، يقرأ في ضوئه في كتابٍ وهو يَتمايَل، وهي الآن عند الساحة قريبًا من البيت، يتجمهر عليها الناس مُبشِّرين، تهزُّ رأسها غير مُصدِّقةٍ، تصرخ، ترمي بعصاها، تزيحهم عنها، تشقُّ الطريق بينهم إلى باب الدار، حمحمتْ، صهلتْ: يا عبد، يا عبد، عبد، عبد، ضربت البثور إبطي، وتقطَّعتْ سيور نعلي.

ذهل عن الكتاب في يده، سقط منه في النار دون أنْ يدري، فعل صوتها المشروخ فعلَه به، فكَّ لثامه، مدَّ رقبته وشفتيه، تمامًا مثل حصانٍ قد أخذه شيءٌ من النشوة.