المنستير (تونس) - ماهر جعيدان (الأناضول) : بين الصخور والمغارات البحرية في شاطئ "القراعية" بمدينة المنستير شرقي تونس، يعيش سمك صغير الحجم فضّي اللّون يسمّى "الشركاو"، وتتميّز به هذه المدينة الساحلية عن غيرها من المدن التونسية.



ويعتبر سمك "الشركاو"، الذّي لا يتجاوز طوله 4 سنتيمترات، هو الأكلة الرئيسيّة التّقليدية لسكان المنستير؛ فهو يزّين مختلف أطباقهم في الأعياد والمناسبات، وحتى في الأيام العادية، وخصوصا طبق "الكسكسي" الشهير.

وتعود تسمية شاطئ "القراعية" إلى كلمة ذات جذور تركية (KARA AYA)، وتعني "الراهبة السوداء"، وهو الشاطئ الذي ينطلق منه الصيادون لصيد سمك "الشركاو"، المتنقل في أسراب ضخمة العدد.



بين الأسطورة والواقع
سنويا، تقام في المنستير تظاهرات تحتفي بهذا النوع الشهير من الأسماك، وترافق عملية طبخه مراسم احتفالية على شواطئ المدينة، وتتنوع الأكلات المقدمة للحاضرين، وتقام للسكان موائد لتذوّق أطباقه الشهية.

عن "سرّ" تميّز المنستير بهذه الأكلة، يتداول سكان المدينة أسطورة مفادها أنا "ناسكا" كان يقيم فيها، في قديم الزمان، وكان لديه ابنة في غاية الحسن والجمال. وببلوغ الفتاة سن الزواج، تقدّم لخطبتها عدد كبير من شباب المدينة، غير أن والدها رفضهم.

بدا الأمر غريبا لسكان المدينة، وتساءلوا عن سرّ الرفض وشروط الأب لقبول تزويج ابنته. وردّا على التساؤلات، قالت الفتاة: "سأقبل، غدا، عند شاطئ القراعية بمن يأتيني بأكبر كمية من السمك".

وفي المكان المحدّد، تدفّق عدد كبير من الصيادين، حاملين كميات مختلفة من السمك، غير أنها رفضتهم جميعا، ولم تقبل إلا بشاب وضع أمامها كيسا من السمك، وهمس: "جئتك بمائة سمكة وسمكة"، ثم ألقى تحت قدميها بسمك "الشركاو"، فكان أن قبلت به زوجا.

حكاية يتداولها سكان المنستير على مرّ الأجيال، ومع أنهم يتفقون جميعا على أنها "أسطورة" من نسج خيال عشّاق الروايات، إلا أنهم يستمتعون بسردها على مسامع كل من يستفسر عن سر طبق "كسكسي الشركاو" المميز.



كسكسي الشركاو
العام الجاري، بادرت جمعية" فن الطهي للجميع" (أهلية) بتنظيم يوم لهذا الطبق، الذي أضحى من خصوصيات المنستير. وخلال التظاهرة، قام كبار الطهاة في المدينة بتحضير الطبق بطريقة الأجداد نفسها، محاولين التقيد قدر الإمكان بكل التفاصيل الدقيقة لتحضير الطبق، بعيدا عن الإضافات التي شابته على مر الزمن.

45 دقيقة كانت كافية لطهي تلك الحبيبات الدقيقة في قدر خاصّ، عن طريق البخار المتصاعد من قدر أسفله، يضم بهارات وخضروات متنوعة من بطاطس وبصل وغيرها، قبل أن يوضع في صحن كبير ويزيّن بفطائر "الشركاو" المقلية.

ما يميّز طهي "الشركاو" عن غيره من الأسماك في تونس هو وضعه في "الكسكاس"، وهو عبارة عن قدر مخصص لطهو الكسكسي، مع حبات الكسكسي، ليتم طبخه عن طريق البخار.

وقال المازري عيسى، كبير الطهاة في المنستير، للأناضول إنّ "المدينة معروفة، منذ القدم، بأكلة الكسكسي بالشركاو، وهي خصوصية لا نجدها إلا في تونس". وأضاف: "يوجد الشركاو بكثافة بين الحجارة الموجودة في شواطئ المنستير، وفي مساحات ضيقة، وطريقة صيده تكون بشبكة كبيرة جدا ودقيقة". وتابع أن "الصيّادين يمضون يوما بأكمله للحصول على بضعة كيلوغرامات من هذا السمك".

وبحسب عيسى فإنّ "لهذا النّوع من السّمك منافع صحية كثيرة، وهو من فصيلة السمك الأبيض، وطريقة طبخه دقيقة جدا، كما أنّ عملية تنظيفه تتم بطريقة خاصة، عبر استعمال الملح بعد إزالة رؤوس الأسماك".

وتابع أنّ "سكّان المنستير يحافظون حتى اليوم على طبقهم المميّز في مناسباتهم الدينية وغيرها، ما يدعوهم إلى تخزين كميات كبيرة منه في منازلهم".



خصوصية متوسّطية
حلمي قحبيش، رئيس جمعية "فن الطهي للجميع"، قال للأناضول، إن "كسكسي الشركاو بالأساس هو طبق متوسطي (خاص بشعوب البحر الأبيض المتوسط)". وأردف أنه "لا يوجد إلاّ في أماكن محدودة من بعض البلدان الأوروبية، مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا، حسب بحوث قام بها علماء البحار والموارد السمكية".

"أما في تونس، فيعتبر هذا الطبق من خصوصيات المنستير دونا عن بقية المدن الساحلية"، وفق رئيس الجمعية. وهو طبق يعكس خصوصية محلية متعددة الأبعاد، ويستقطب عددا كبيرا من السائحين المحليين والأجانب، من عشاق تذوّق هذا الطبق الشهي، خصوصا وأن المنستير من الوجهات السياحية التونسية المهمة، نظرا لخصوصيتها التاريخية والحضارية.

والمنستير مدينة جذابة بمناظرها الطبيعية الخلابة المطلة على البحر المتوسط، وكانت تسمى في العهد الفينيقي بـ"روسبينا"، وأطلق عليها اسم المنستير في العهد البيزنطي، ثم الروماني بعد سقوط قرطاجنة، أي في 146 قبل الميلاد.

ويمتد الشريط الساحلي على طول المنستير، التّي تتميز شواطئها بزرقة لامعة، وتطلّ على ثلاث جزر صغيرة، وهي: "المائدة" و"الوسطانية" و"الغدامسي". وتضم هذه الجزر عددا كبيرا من المغارات، وكانت في السابق 42 مغارة، غير أنه لم يتبقّ منها سوى ستٍ فقط، حيث يوجد سمك "الشركاو".

وهذه المغارات بيئة ملائمة لتواجد الأسماك بكافة أصنافها. ويعتبر صيد الأسماك من المهن التقليدية الأصيلة لسكان المنستير، إذ أن البحر، ومنذ القدم، هو مصدر رزقهم الوحيد.