تونس - د. سمير رجب سليم (المترجمين العرب) : ولد الشاعر محمود أبو الوفا (و أسمه بالكامل: محمود مصطفى أبو الوفا الشريف) فى إحدى قرى محافظة الدقهلية (الديرس - أجا) بجمهورية مصر العربية، حوالى عام 1900م، و أصيب في ساقه اليسرى إصابة اضطرت الأطباء إلى بترها، وهو في سن العاشرة، و لقد كانت تلك الإصابة سببا مباشرا في تأخر شهرته، بالرغم من جودة أعماله الشعرية.



ففي عام 1927، يشارك الشاعر في مسابقة أقيمت لتكريم أمير الشعراء أحمد شوقي، و تختار قصيدته للإلقاء في حفلة التكريم الرسمية، إلا أن شوقي يرفضه بسبب جلبابه البلدي و عكازته...

و تضطرب حياة الشاعر المعيشية، فهو ليس من طبقة اجتماعية ميسورة الحال، و لا ينتمى للأحزاب السياسة و لا للشلل الفنية، و لم يحصل من التعليم إلا على ثلاث سنوات في معهد دمياط الديني، و يرفض كل أشكال التسول و يسير هكذا في حياته بجلباب بلدي و عكاز، و يصف الشاعر أبو الوفا تلك الفترة من حياته في قصائده: لم يبق في الحى... رثاء نفسى... البيئة. و قصيدة "يا صاحب البؤساء".. التي وجهها إلى الشاعر المصري حافظ إبراهيم (مترجم قصة البؤساء للكاتب الفرنس فيكتور هوجو)، و فيها يقول:



يا صـاحب البؤِساء، جاءك شاعر >< يشكو من الزمن اللئيم العاتي
لم يــــكفه أنى على عـــــــكازة >< مشى فحط الصــخر في طرقاتي
ثم أنثنى يُزجــى على مصائبا >< سحــبا كقطعــان الدجــى جهمات
في ليلهن فقدت أمــالي اللأُلي >< صاحبننى مــذ لاح فـــجر حياتي
فغدوتُ في الدنيا و لم أترى أمن >< أحيائها، أنــا أم من الأمـــــوات؟



و يمضى أبو الوفا في حياته كأنه فكرة في غير بيئتها بدت، فلم تلق فيها أي إقبال، إلا أن تتيح له مجلة المقتطف عام 1930، فرصة نشر قصيدته "الإيمان"، و سرعان ما تتناقل خمس مجلات كبار قصيدة الإيمان، مما ُيعد نصرا صحفيا للمقتطف، دعا الدكتور فؤاد صروف – رئيس التحرير وقتئذ – إلى دعوة أبو الوفا للانضمام لأسرة تحرير المجلة، حيث عُهد إليه بتحرير باب "مكتبة المقتطف". و تقيم له رابطة الأدب الجديد حفل تكريم، يجده أمير الشعراء فرصة للتكفير عما أقترفه في حق أبو الوفا، يوم أن طرده من حفل تكريمه، و يرسل أمير الشعراء لجريدة الأهرام قصيدة في تكريم أبو الوفا، يشيد ببراعته الشعرية و أنه رغم سيره على عكاز تقيد خطواته، فإن صاحب خيال متحرر، يطوى البلاد و ينتشر في جميع الأفاق، و يبدى إعجابه بجمال بيان الشاعر وهو بحالته هذه (مقيد الخُطا)، فكيف إذا أسترد ساقه و تمكن من التنقل بحرية أكثر؟ و يرى أن الأطباء لو يستسيغون لما في أشعاره من حلاوة، لصنعوا له بدلا من الساق المفقودة جناحا يطير به، ونشرت القصيدة كاملة في الأهرام في 21 فبراير عام 1932، و كان منها الأبيات التالية:

البلبل الغرد الذى هز الربى >< و شجى الغصون... و حرك الأوراقا
خلف البهاء على القريض... و كأسه >< تسقى بعذب نسيبه العشاقا
في القيد ممتنع الخطا... وخياله >< يطوى البلاد و ينشر الآفاقا
سباق غايات البيان جرى بلا >< ساق، فكيف إذا إسترد الساقا
لو يطعم الطب الصنــاع بيانه >< أو لو يسيغ – لما يقول – مذاقا
غـالى بقيـمته فلم يصنــع له >< إلا الجنــــاح محلقــا خفاقـــا



وتبدا صفحة جديدة من حياة أبو الوفا، فيسافر إلى باريس في يونيو 1932، ليعود منها في بدلة إفرنجية و جهاز صناعي بدلا من جلبابه البلدي و عكازه الخشبي، وفى نفس العام يُصدر مجموعته الشعرية "أنفاس محترقة، و تفتح له المجلات و الصحف صدرها و تتسابق إلى نشر ما يقول، و يغنى له الموسيقار محمد عبد الوهاب قصيدة عندما يأتي المساء، و تطلب منه وزارة المعارف استكمال ما كتبه أمير الشعراء أحمد شوقي من شعر للأطفال (و كان أمير الشعراء قد انتقل إلى رحمة الله)، فيستجيب أبو الوفا لهذا الطلب بمجموعة شعرية، قررت الوزارة تدريسها ما يقرب من ربع قرن، ضمن المجموعة التي عرفت باسم "المحفوظات المختارة". و بهدف تربية النشيء تربية روحية و مادية، يصدر أبو الوفا ديوان أناشيد دينية عام 1937 ثم أناشيد عسكرية عام 1937.

و تتوالى أعمال الشاعر في دواوين متعددة: أشواق و أعشاب (1933) و عنوان النشيد (1951) و شعرى (1962)، و تصدر الدراسات النقدية عن أعماله بأقلام أساتذة كبار مثل: عباس محمود العقاد، مصطفى صادق الرافعي، و الدكتور محمد حسين هيكل باشا، و الدكتور طه حسين، و الدكتور محمد مندور، و الدكتور فؤاد صروف، و الأستاذ وديع فلسطين، و أستاذ الأدب العربي الدكتور أحمد الشايب، و الدكتور أحمد زكى أبو شادى، و الأستاذ سيد قطب و كامل الشناوى و مصطفى عبد اللطيف السحرتي و محمد زكى عبد القادر و إبراهيم المصري عبد المنعم شميس و غيرهم كثير.



و يتذكر أولو الأريحية الشاعر أبو الوفا عام 1967، فيقلده الرئيس جمال عبد الناصر وسام العلوم و الفنون من الدرجة الأولى، ثم يمنحه الرئيس محمد أنور السادات عام 1977 جائزة الجدارة في الفنون، و تلبى محافظة القاهرة أمله في الحصول على شقة في الإسكان المتوسط المتميز، فينقل من حي العمرى (باب الخلق) إلى مدينة نصر عام 1978، إلا أنه ما ينتقل إليها حتى يناديه ربه في 26 يناير 1979، فيدفن حيث تمنى في بلدته الديرس، في مقام جده العارف بالله سيدى أبو الوفا الشريف.