القاهرة - منير عامر (الأهرام) : وعيونها بالنسبة لي قصران من حنان‏؛ يفتحان لي رؤية نفسي في قاع العينين اثنين‏. ‏فأكون عاشقا لها مرتين‏.‏ وأقسم أني أسير علي حنان مورق إلي أن أسكن أنا آخر العينين‏..‏ في أعماق الأعماق فأذوب؛ فأتلاشي‏، فأولد‏، فأنسي ضجر الأيام‏، فأصرخ؛ فيخرج صوتي موسيقي بلا كلمات؛ ولكن لحنا جارفا ينساب كأنه نهر يمتد بفيضانه من السماء إلي الأرض.



ويتحول فيضان النهر إلي درجات سلم ملون. تهمس لي اعماقي هذا سلم العشق الذي ستصعد به إلي جبل الدهشة، وما ان اضع قدمي علي اول درجة في درجات هذا السلم؛ حتي تفجرت في أعماقي حقيقة بسيطة، وهي أنني صاعد إلي قمة الحنان الصافية.

وما أن يتوالي صعودي حتي أجد نفسي سيد كل حقائق الكون؛ لكن تحذيرا يخرج من فمها لا تكن مثل صديق أفكارك برتراند راسل؛ كيلا تسقط في بئر جدرانه أشواك تفاصيل صغيرة جارحة.

ألقتني كلماتها إلي تذكار لقانا في روما؛ حين ضحكت بطفولة لا تتناسب مع عامها الأربعين لمجرد ان قلت لها لابد أن تكفي عن احتلال خيالي، وكأن كلماتي أطلقت في قلبها نافورة من فرح غامر؛ فنطقت الكارثة أني لا أستطيع تمييز هل أنت صادق أم مخادع، فكلماتك تجعل قوس قزح سكندري يشرق في قلبي؛ وما أن أحاول الإمساك بك لتكون شريك عمري حتي أنتبه إلي أن حبنا صار ماضيا؛ قتلته عائلتي وعائلتك، ولا يبقي لي إلا أن أسقط في البئر التي حذرتك من السقوط، لأجد أشواك التذكار تلتف حول روحي لأمتلئ بعطش التفاصيل الصغيرة وأتمني أن تعود لي لحظة الحب الصافية لعلي أصعد إلي قمة جبل الدهشة علي سلم مصنوع من ألوان قوس قزح.



كان الصراع خافتا بين أمي التركية ووالدتها الإيطالية.

وكانت ليليان تقول لي بين الأتراك والإيطاليين كراهية عميقة.

سببها غير ديني، سببها ببساطة مذابح كثيفة قام بها الجانبان كل منهما ضد الآخـر في أثناء محاولة القدماء السيطرة علي العالم وكثيرا ما سألت: ولكن ما ذنب حبنا نحن في هذا الأمر؟.

وكثيرا ما ضحكت ليليان وهي تقول:

ـ لا تقل حبنا.. بل قل حبي لك: لأنك عمليا لا تحبني بالشكل المخلص. ورحم الله فنان الإسكندرية الأشهر سيف وانلي؛ عندما سألته عن خياناتك لي فقال - وهو الصامت الذي كان يري الدنيا ألوانا ولا ينطق إلا القليل من الكلمات - قال لي سيف وانلي عنك إنك عاجز عن التفريق بين الوردة الريانة، وزهرة حنك السبع، فالوردة الريانة لا ينفد عطرها بينما زهرة حنك السبع تبدو مغرية بلاعطر؛ فأنت لا تمانع من صداقة دافئة مع كيداهم ابنة صاحب الفرن في شارع بوالينو. ولا مانع عندك من البكاء بين يدي طالبا المغفرة. لا تقل إنك تحب امرأة فأنت تحب اعتراف امرأة ما بك كرجل. هذا كل ما في الأمر.

وكنت أعلم أنها صادقة تماما وكنت لا أعرف ما السر في اندفاعاتي الهوجاء في المراهقة وما بعدها إلي ما يصادفني من مغامرات طارئة، لكن كان قلبها هو الميناء الذي أركن إليه دائما. وليس معني ذلك أنني كنت دون جوان ولكن كان معني ذلك أنني متلهف إلي إثبات ذاتي بأي طريقة وبكل وسيلة. لا أنسي يوم رحيلها مع والدتها إلي روما إن دموعي كانت تتلاحق مع دموعها لتصنع الدموع بحرا تسير فيه المركب إلي إيطاليا. ولا أنكر أنني استرحت لأنها سافرت. ولم تنكر هي أيضا أنها استراحت؛ فآلام الافتراق توحي باقتراب النسيان. ولكن الرسائل بيننا لا تنتهي. فعندما تزوجت هي من شاب يملك مصنعا للآلات الإلكترونية أرسلت لها لوحة من لوحات سيف وانلي. وأرسلت لي كرافت إيطالية مكتوبا عليها كلمة واحدة سأشنقك لو تزوجت غيري. وعندما تزوجت أنا أرسلت لي كرفتات إيطالية ومعها كلمة لزوجتي أشنقيه بها لو نظر إلي امرأة غيرك إلا أنا.. فأنا أسكن في أعماقه. وعندما احترق زوجهـا عندما لمس آلة كهربائية. أرسـلت لها كلمة واحـدة جميعنا نحترق ولكن لم نصبح بعد رمادا. وعندما جاءت لزيارة القاهرة وجدتها جميلة فوق التصور وقلت لها: لو سمحت لي زوجتي أن أتزوجك الآن لفعلت. ضحكت قائلة: ليس لك الحق في أن تستأذن زوجتك فأنا الحلم الأول وهي الحلم الأخير.




قالت: أنا حزينة من أجل بعثرة العمر في أحلام تنكسر دائما.

قلت: لكن أنا حزين لسبب آخر غير كل الذي تقولينه.

قالت: ما سبب حزنك ؟.

أجبت: هو برتراند راسل.. الفيلسوف الذي أحببته أنا فوق التصور. لقد قرأت عنه مقالا كتبه أستاذي الراحل الدكتور أحمد أبو زيد. روي فيه أن الرجل تحرك في مدي 94 عاما علي ثلاثة محاور.. المحور الأول هو الشوق الجارف للحب. والمحور الثاني هو البحث عن المعرفة العميقة، والمحور الثالث هو الآسي الكبير لأن البشر غير سعداء علي هذا الكوكب.

قالت ليليان: وما الذي يشقيك ويحزنك في أن رجلا له قيمة كبيرة مثل برتراند راسل رصد حياته من أجل هذه الأفكار الثلاث ؟

قلت: لا.. لأن المحور الأول الذي رصد له حياته وهو محور الشوق الجارف للحب قاده إلي إقناع فتاة بأن الحب هو كل شيء في حياته، بينما كانت هي تري أن الصداقة هي كل شيء في حياتها. وما إن تزوجها وأمضي معها عشـرين عاما حتي شعر أن الحب قد مات، فطلقها وعاش مع امرأة غيرها وتزوجها وأنجب منها طفلين. وكانت للطفلين مربية حسناء؛ أرسلت شفرة الغواية؛ فاستقبلها في احضانه ليـنجب منها طفلا ثالثا.

قالت ليليان: ما الذي يحزنك في ذلك. لقد عاش الرجل مثلما يعيش كثير من الرجال. يقولون للنساء كلمات حنان، تصدقهم النساء. ينجبون الأطفال. يترك كثير من الرجال البيوت إلي الموت أو إلي قصص حب أخري.

قلت: سر حزني أن الرجل عاش مديونا واضطر إلي كتابة مقالات في بعض المجلات النسائية مثل هل من حق المرأة أن تعتنق أي مذهب سياسي أو تدعو للمساواة بين الرجل والمراة بينما هي تستعمل أحمر الشفاه، وتقف أمام المرآة لتضبط قدراتها علي غواية الرجل ؟.

قالت ضاحكة: وما الذي يزعجك في ذلك ؟.

قلت: ان اضطر فيلسوف كبير إلي مثل هذا اللون من الكتابات ليوفر كمية من النقود ليصرف علي أبنائه ومطلقاته.

قالت: علي الأقل هو لم يفعل مثلما فعل أحد الكارادلة الذي تعاون مع المافيا وأدار بنكا يقوم بتمويل صفقات السلاح وسرقة الأطفال من جنوب شرق آسيا وبيع أعضاء هؤلاء الأطفال لأوروبا وأمريكا.

وعندما ظهر المستور انتحر أو قتلته المافيا، لا أحد يعرف.

قلت: ولكن الكاردينال هذا لم يضطر إلي كتابة مقالات ليصرف علي مطلقاته.

وهو لم يعلن أن الحب هو محرك التاريخ. إنه رجل سياسة ارتدي ملابس الكاردينال.

ومضي ينفذ تعاليم البنوك علي أساس أنها تعاليم السماء.

قالت: إذا أردت أن تعرف كيف تدار كرتنا الأرضية، فلابد أن لك أقارب وضعوا أموالا في مسلسل شركات توظيف الاموال التي إنتشرت في بلدكم في أوائل الثمانينيات. حيث جمعت تلك الشركات اموالا بغرض الاستثمار وحددت نسبة عائد تفوق قدرة أي استثمار اللهم إلا إن كانت تتاجر في المخدرات أو السلاح. وعموما انكشفت تلك الشركات؛ وساعدت الحكومة في كشفها لأن الريان_ علي سبيل المثال_ تبرع للدعاية الانتخابية الخاصة بتنظيم الإخوان المسلمين في أول برلمان في عهد حسني مبارك بحوالي أربعة ملايين جنيه؛ وكانت بطبيعة الحال من أموال المودعين؛ بينما لم يتبرع للحزب الذي كان يرأسه حسني مبارك إلا بنصف مليون جنيه فاعادها له حسني مبارك. وبدأ مسلسل الكشف عن فضائح شركات توظيف الأموال. وقد تندهش لان نصاب أمريكيا اسمه مادوف نقل فكرة توظيف الأموال بأرباحها غير المعقولة إلي وول ستريت؛ وإخترق ضمير كل اجهزة الرقابة في بورصة وول ستريت ودهاليز الكونجرس؛ وسرق قرابة الخمسة وستين مليار دولار من عام 1992 إلي عام انكشاف عمليات النصب عام 2008؛ وهو من إعترف بعمليات النصب بعد ان عجز عن توزيع الأرباح الضخمة التي كان يعد بها وصدر عليه حكم بالسجن لمدة مائة وخمسين عاما؛ وليقتل احد ابنائه نفسه لانه ساعد والده في عمليات النصب.




أقول متعجبا وضاحكا: أنت هنا في روما وتتابعين أخبار العالم ومن ضمنه مصر وما حدث فيها.

تقول: لماذا تنسي أني سكندرية الميلاد، وتنسي أني أول فتاة تشكل قلبك علي هيئتها كما كنت تقول لي ؟ هل تظن أن امرأة تسمع من حبيب لها أن قلبه تشكل علي هيئتها ويمكن ألا تتابع حتي كمية الأوكسجين التي تدخل أنفه عندما يمشي في شوارع القاهرة او وهو يقضي الصيف في مارينا ؟ أنت تنسي أني أتابعك كظلك، مهما بعدت المسافة: وأتابع اخبار العالم لاني اعيش معك علي ظهر هذه الارض، مهما تفرقنا في دهاليز الكون.



بعد العشاء دعتني لرؤية فيلم عن الحياة السرية لكيفية إدارة الكرة الأرضية. يفتتح الفيلم بمشهد من البيت الأبيض حيث يجتمع تسعة من كبار المعاونين في الإدارة الأمريكية؛ لنكتشف أن كلا منهم اختلس عدة ملايين واستقال بعد ذلك.

ثم تظهر صورة الكاردينال الذي أدار بنكا في عمليات سرقة الأطفال من جنوب شرق آسيا وبيعهم كقطع غيار آدمية في لندن وباريس. وبعد ذلك يأتي كلام لاحد زعماء المافيا وهو يقول نحن أكثر براءة من هؤلاء الذين يمارسون القتل والسرقة باسم أحلام الشعوب وتنتقل الكاميرا إلي حوار يلتسن رئيس روسيا الأسبق وهو يرفض التوقيع علي قرار التنازل عن الحكم إن لم يصدر له استثناء من المحاسبة، كي لاتقف ابنته وزوجها مثلما وقف زوج ابنة بريجينيف في المحكمة ليشرح كيف كان يتلقي الرشوة، وقد أعطاه بوتين هذا الإعفاء من المحاكمة هو وعائلته؛ ثم ظهرت صورة كسينجر وهو يتحدث عن عشيقات بريجينيف رئيس الإتحاد السوفيتي في ركودها الأخير قبل جورباتشوف ويلتسن، وأضاف كسينجر حديثا عن عشيقات ماوتسي تونج، وكان كل من ماوتسي تونج وبريجنيف يهويان المغامرة مع خريجات كليات العلاج الطبيعي. ثم زحفت الكاميرا علي افريقيا لتزور بلدا هو المنتج الأول للفانيليا وقد حاولوا تطبيق الاشتراكية فيه فأنتجت تلك المحاولات أسرة حاكمة من اللصوص، وكيف أن الجوع منتشر إلي حد لا يتصوره عقل في ذلك البلد الواقع في قلب افريقيا.

وتنتقل الكاميرا طهران حيث يظهر أحد الوزراء الإسلاميين وهو يحتضن مديرة مدرسة في مصعد الوزارة؛ ومن هذا الوزير العاشق إلي إستعراض كنوز شاه إيران التي ورثها حكم الملالي؛ وكيف إتفق حكم الملالي مع حكم الشاه في القتل واستباحة دماء بعض المثقفين الذين رفضواالانصياع وأشهرهم مختار قطب زادة اول وزير للخارجية مع الخوميني.

وتغادر الكاميرا قارة آسيا إلي أمريكا اللاتينية فهناك أكثر من بلد يزرع الأشجار التي يتم استخراج الكوكايين منها.

ويقول أحد القضاة لقد هربت من بلدي إلي كندا لأن عصابة ما جاءت إلي منزلي وقالت إما أن تهرب كل المال اللازم لحياتك وإما أن نقتلك أنت وأولادك.

حدث ذلك في اليوم السابق لإصدار حكم علي ثلاثين مهربا للكوكايين.

وجاءت صورة من لبنان حيث تقوم سفارات بعض الدول في إدارة الحياة السياسية وينتقل المصور من بعد ذلك إلي فرنسا حيث دارت منذ سنوات أحداث فضيحة سياسية كبري عن علاقة بعض من رجال السلطة بشركة اسمها بيشنة حيث أثري بعض الأفراد ثرا فاحشا نتيجة تسريب بعض المعلومات لبعض الأشخاص فارتفعت أسهم شركة معينة من وروهات بسيطة إلي عشرات المئات.

وأثري من خلال ذلك عددا لا بأس به من الأشخاص.

وكيف سافر ساركوزي إلي ليبيا ليرجو معمر القذافي ان يمول حملته كرئيس لفرنسا؛ وموله القذافي بقرابة خمسين مليون يورو؛ وكان ساركوزي أول من أيد قتل معمر القذافي. وتجري الكاميرا مرة أخري إلي أسلوب حياة ماركوس ديكتاتور الفلبين السابق وزوجته، حيث كان حلم الرجل أن يتم دفنه في الفلبين بعد أن خرج منها مدحورا مطرودا.. ويصور الفيلم الرجل العجوز وهو يمشي بين أحذية زوجته المرصعة بالألماس. ويقول معلق الفيلم: الخلاف بين نظام ماركوس ونظام السيدة أكينو التي تولت الحكم من بعده هو الخلاف بين استنزاف الناس قهرا واستنزافهم برضائهم، فالحالة الاقتصادية في الفلبين لم تتحسن كثيرا في أيام اي منهما.

وتنتقل الكاميرا إلي باكستان أيام حكم السيدة بنيظر بوتو هي التي قتلت بعد ذلك.

وتحكي الكاميرا قصة الخلاف بين أسرة بوتو وأسرة الجنرال ضياء الحق الذي قتل والد بنيظر بوتو؛ ثم وقعت الطائرة بالجنرال ضياء الحق، والقصة تبدأ من خلاف بسيط جدا.

فالجنرال ابن أسرة إقطاعية وكان ذو الفقار علي بوتو ابن أسرة إقطاعية أيضا.

وكان بوتو يري في ضياء الحق رجلا غير صالح لقيادة الجيش، لذلك أعطاه هذا المنصب.

وكان الجيش كله يكره قيادة الجنرال ضياء الحق؛ لكن الجنرال ضياء الحق كان يحمي نفسه من كراهية الجيش له بزيارة يومية كل مساء إلي قصر ذو الفقار علي بوتو ليقسم بين يديه أنه المخلص الوحيد له.

ولكن الأصابع الخفية تلعب. ويتوجه الجنرال ضياء الحق ذات مساء إلي منزل ذو الفقار علي بوتو ليعتقله ويصدر عليه حكما بالإعدام؛ فيقول له بوتو: أنا إقطاعي وثق في شخصي الشعب الباكستاني وأنت إقطاعي لن يثق فيك الشعب وكانت رؤية ذوالفقار علي بوتو صائبة فقد انفجرت طائرة الجنرال ضياء الحق ليتناثر جثمانه نتفا مع بقايا الطائرة.



أسأل ليليان ما الذي يعجبك في هذا الفيلم التسجيلي الذي يجعل قمة العالم بأغلب رجال قيادته الذين هم مجرد لصوص وفاسدين ؟


تقول: هل أنت غاضب لانهم تجاهلوا أحزان صديقك الفيلسوف برتراند راسل.

قلت: لقد مات راسل منذ سنوات والفيلم لم يعرض لحياته، لقد عرض مسلسل الرشوة والقتل من آسيا إلي أمريكا إلي أوروبا إلي روسيا إلي افريقيا.

قالت: ألم تجد أن المحرك لكل الفساد هو الثلاث أفكار التي عاش من أجلها الفيلسوف راسل.

قلت: لقد عاش من أجل البحث الشديد عن العلاقة العاطفية.

قالت: وكل اللصوص سرقوا لأنهم دخلوا في أكثر من علاقة عاطفية.

قلت: لقد عاش راسل من أجل البحث العميق عن تقدم العلم.

قالت: وكل اللصوص استخدموا العلم ليسرقوا بدقة منظمة.

قلت: علي العالم أن يقلل من الشراسة التي تملأ أركانه وزواياه.


تضحك ليليان لتهمس لي بسر من تقرأ كل ما اكتب رغم ابتعاد المسافة بين القاهرة وروما: أنا أعلم لماذا تصر في بداية أي كتابة لك علي ان تكون كلمات البداية هي أغنيات حب مشتاق بين رجل وامرأة ثم تفاجئ من يقرأ بمناقشة أمور يتداخل فيها الاقتصاد والسياسة والاجتماع وغير ذلك من فروع الحياة.

أقول: لماذا تنسين اني عربي؛ وان العربي القديم عندما كان يكتب كان يبدأ بأشواق القلب لا لشئ إلا لأن لحظة اللقاء النقي بين الرجل والمرأة هي الهدف الأول للإنسان وهي ملاذه الأخير ولا توجد حركة ناجحة في أي مجال من مجالات العلوم إلا وهي تضع في اعتبارها أنها في خدمة كائنين اثنين، رجل وامرأة يرتبطان معا بحلم قديم وجديد: ويكفيني في ذلك أن أقول إن عالما نفسيا لا حدود لشهرته في مجال الطب النفسي واسمه أريك برن كان يعلن ان الإنسان الذي يعيش حياته بحلم لا يعلنه؛ حلم الحياة لخمس عشرة دقيقة فقط من الحب الصافي، هو الإنسان المؤهل للنضج العاطفي وهو الذي لن توقفه أمراض نفسية عن أداء أعماله وحياته بانسجامه مع مجتمعه طوال عمره.

إذن هي خمس عشرة دقيقة فقط من الذوبان العاطفي العميق هي التي تقي الإنسان من الوقوع في أنياب الانهيار مهما بلغ من العمر.



لابد من الاعتراف أنه عند درجة معينة من الصدق مع ما مر من تفاصيل صغيرة او كبيرة كانت تترك عطرها او جروحا تصير ندوبا علي جسد الذاكرة، وأنني مع ليليان أغسل برؤية صورتي في عينيها كل ما علق في من آلام وكأن الرحيل في عينيها ينقي العمر من كل اشواك مرت بي؛ وكل منا يعلم انه عاش رحلة مكتومة او علنية من ندم ودموع وأشواك مغروزة بالمرارة في حلق كل منا وطعنات افتراق تمزق لحم كل منا رغم أن كلا منا استطاع ان يخبئ نفسه ولحمه المطعون في ملابس أنيقة.

وخرج كل منا من المنطقة السحرية التي سكناها معا بالخيال، فصارت الأيام كنهر من الحجر الزجاجي نتمزق ونحن نسبح، ليتلون الزجاج بلون دمائنا؛ إلي أن استقر كل منا علي شاطئ عمر مختلف.

ولكن ما ان اجد في نفسي قدرة او رغبة في فهم العالم وقبوله فلابد من ليليان لاحكي معها عن رحلة الحياة التي يطلب فيها كل عاشق لنفسه خمس عشرة دقيقة من الذوبان العاطفي الصافي وأنا لا أطلب هذه الدقائق لنفسي فقط؛ ولكني أدعو بها لكل إنسان يحيا علي هذه الأرض.

ولاأعلم لماذا قلت: كل من تحدث عنهم هذا الفيلم الأسود لم يعيشوا في حياتهم تلك الدقائق الخمس عشرة من الذوبان في بوتقة الصدق العاطفي الصافي.

سألتني ليليان: وحتي برتراند راسل لم يعشها ؟


أقول ضاحكا: لعله عاشها مرة او مرتين في مجمل حياته ومضي يبحث عنها من جديد في أحضان التجارب المختلفة.


وساد الصمت عندما أطلت صورتي في عينيها؛ فهما قصران من حنان أصير بهما اثنان فأري نفسي في قاع العينين اثنين، فأكون عاشقا لها مرتين، فأسكن أعماق الأعماق فأذوب فأتلاشي فأولد فأنسي ضجر الأيام فأصرخ فيكون الصوت موسيقي لحن جارف ينساب كنهر يمتد فيضانه من السماء إلي الأرض.

فأدقق في وجهها جيدا، فأري ملامحها التي تورق بطاقة تواجه بها الأيام وأحلاما تتبعثر هنا وهناك.

فأقول معها ولها ما قاله بول ايلوار الشاعر الفرنسي:


أنا أقول: نعم للعالم ابتداء منك