حوار نفطي بين 'راعي البقر' و'راعي الجِمال'



د. أنس بن فيصل الحجي - أكاديمي وخبير في شؤون النفط 05/07/1429هـ

تم التركيز في مقال الأسبوع الماضي، الذي كان بعنوان 'كفانا أخطاء، ولا ثقافة نفطية دون فكر' على فكرة فحواها أن 'الثقافة النفطية' بالشكل الذي تتبناه بعض الحكومات والشركات النفطية لن يفي بالغرض، لأن هذه الثقافة تتطلب فكراً يستطيع من خلاله الإعلاميون والمختصون الرد على الشبهات المختلفة المتعلقة بالنفط العربي. وتطرق المقال إلى إحدى نقاط الخلاف الكبيرة بين منتجي النفط وأعدائهم ألا وهي تكاليف إنتاج النفط. لتوضيح هذه النقطة في ظل 'الثقافة المدعومة بفكر'، وفي ظل الارتفاع الكبير في أسعار النفط في الفترات الأخيرة، وتجدد العداء للدول المنتجة، ولأن التاريخ يعيد نفسه، فإن بعض المقالات القديمة لم تفقد بريقها لأنها رغم قدمها إلا أنها بتعديل بسيط تظهر وكأنها كتبت في هذا الأسبوع، والمقال أدناه أفضل مثال على ذلك.
شن 'رعاة البقرة' حملة شعواء على من سموهم 'رعاة الِجمال' لقيامهم برفع أسعار النفط. وكنت قد تحدثت مع أحدهم، وهو أمريكي متخصص في شؤون الطاقة، بعد أن شن هجوماً عنيفاً على العرب وسخر منهم بقوله 'إنه لا يمكن لرعاة الجِمال أن يتقنوا إدارة أسواق النفط'. وقد حاول الاعتذار بعد أن أخبرته بأنني أنتمي إلى من سماهم 'رعاة الجِمال'، وأحس بالحرج عندما أخبرته بأن أول جَمل رأيته في حياتي عن قرب كان في بلاده وليس في بلادي!
وعندما سألته عن سبب تحامله على العرب ذكر ما قاله العديد من المسؤولين الأمريكيين من أنه ليس من 'العدل' أن تقوم دول الخليج بتحقيق أرباح طائلة على حساب المستهلك الأمريكي لأن 'التكلفة ال حدية' لإنتاج برميل من النفط لا تتجاوز الدولارين في بعض دول الخليج مثل السعودية والكويت، في الوقت الذي تجاوزت فيه أسعار النفط 140 دولارا للبرميل. وأيقنت من طريقة كلامه أنه إذا لم يكن ادعاؤه نتيجة حقد دفين فإنه نتيجة جهل شديد، وبذلك فإن عليّ أن أزيل حقده أو أمحو جهله!
وقد كنت محظوظاً بعض الشيء لأن غريمي في هذه الحالة ضليع في مبادئ الاقتصاد، الأمر الذي مكنني من طرح بعض الأمور مباشرة دون حاجة لشرح مفصل. فمن المعروف في علم الاقتصاد أن أسعار الموارد المعدنية، بما في ذلك النفط، تُحدّد حسب ما يسمى 'تكلفة الاستعمال' وليس 'التكلفة الحدية'. وعلى الرغم من اختلاف علماء الاقتصاد في تحديد ماهية 'تكلفة الاستعمال' وكيفية حسابها، إلا أن استخدام أي طريقة معروفة سيؤدي إلى نتيجة حتمية، وهي أن تكلفة الاستعمال تفوق التكلفة الحدية بكثير. إن التكلفة التي يتكلم عنها هؤلاء على أنها 'التكلفة الحدية' هي تكلفة استخراج النفط فقط، ولا تشمل ثمن النفط نفسه، ولا تشمل ثمن النفط كمصدر ناضب، ولا تشمل التكاليف الأخرى المتعلقة بإنتاج النفط وتسويقه مثل الطرق والمواصلات والموانئ والخدمات الصحية للعمال وغير ذلك.
ونظراً لتندر الأمريكيين على العرب بأنهم 'رعاة الِجمال' فإنني عادة ما أستخدم المثال التالي لكي يفهم 'رعاة البقر' أن تكاليف الإنتاج التي يتكلمون عنها هي تكاليف نقل النفط من باطن الأرض إلى سطحها، ولكنها لا تشمل سعر النفط نفسه كمصدر طبيعي ناضب، فسألت صاحبي: إذا كانت تكلفة نقل البقرة من أوماها إلى نيويورك 100 دولار، فما هو سعر هذه البقرة في نيويورك؟ هل هو 100 دولار؟ فأجاب: لا، لأن السعر هو ثمن البقرة في هيوستن، إضافة إلى 100 دولار، تكلفة نقل البقرة إلى نيويورك. وكان ردي على الفور: لماذا لا تطبق الفكرة نفسها على النفط؟.... وحاول التملص من المأزق الذي وقع فيه فقال بارتباك: ولكن النفط غير البقر. فابتسمت لهذه السذاجة وقلت في نفسي 'يبدو أن الرجل يعرف بقره جيداً' ثم أجبت بصوت مرتفع: بالطبع إن النفط يختلف عن البقر!
إن البقر مصدر متجدد (عن طريق التكاثر) بينما يعتبر النفط مصدرا ناضباً. إن استخراج برميل من النفط يعني نضوب البئر بمقدار برميل واحد لأن النفط - حسب آراء الأغلبية - مصدر غير متجدد، لذلك فإن سعر هذا البرميل يتحدد بكمية الاستثمار اللازمة للتعويض عنه، وهذه هي 'تكلفة الاستعمال'. وبهذا نكون وصلنا إلى النتيجة التالية: إن سعر النفط يتضمن تكلفة استخراجه بالإضافة إلى ثمنه كسلعة، ويتحدد ثمنه كسلعة بناء على تكلفة الاستثمار اللازمة لإيجاد برميل بديل من النفط، هل أنت موافق؟ فهز رأسه قائلا: كما تعلم فإنني لست متخصصاً مثلك.
أحسست بضعفه فقررت الاستمرار في هجومي قائلاً عندما تربي الأبقار تحتاج إلى حظيرة وأسوار لحمايتها أليس كذلك؟ وربما تحتاج إلى طبيب بيطري إذا مرضت إحدى الأبقار. وإذا قررت بيعهن فإنك تحتاج إلى شاحنات لنقلهن إلى السوق، والشاحنات تحتاج إلى طريق داخل المزرعة أليس كذلك؟ ترى هل ستحسب هذه التكاليف؟ فهز رأسه موافقاً فقلت: لماذا لا تطبق المبدأ نفسه على النفط؟
نظرت إليه نظرة ثاقبة وقلت: هل تعلم أن تكاليف الإنتاج وفقاً للدفاتر المحاسبية لشركات النفط الأمريكية عندما كانت تسيطر على حقول الشرق الأوسط شملت تكاليف شق الطرق وبناء المستوصفات وتكاليف إدارتها وصيانتها. كما شملت تكاليف بناء المطارات والموانئ وشراء الطائرات . وشملت أيضاً تكاليف الأمن والحماية من الأسلاك الشائكة إلى الحرس (وشملت أيضاً تكاليف تمويل الانتخابات والعلاقات العامة والتي تتضمن تشجيع السياسيين على شن حروب لحماية مصالح هذه الشركات). لقد قامت هذه الشركات بإضافة كل التكاليف المتعلقة بالصحة والمواصلات والأمن إلى تكلفة استخراج النفط وإنتاجه. وعندما سيطرت الدول النفطية على مواردها النفطية أصبح شق الطرق وصيانتها تحت إشراف وزارة المواصلات، وأصبحت المستشفيات تحت إشراف وزارة الصحة، كما أصبحت تكاليف الأمن والحماية تحت إشراف وزارة الدفاع. إن توزيع هذه المرافق على الوزارات المتخصصة أدى إلى تناسي الكثيرين لهذه التكاليف، لماذا يحق للشركات الأمريكية أن تفعل ذلك، بينما لا يحق لنا أن نفعل نفس الشيء؟ بعبارة أخرى، هناك تكاليف أمن إضافية تنفقها دول الخليج لوجود النفط فيها وهذه التكاليف ستكون أقل بكثير لو لم يكتشف فيها النفط.
ثم استأنفت قائلا: أنتم تتوقعون أ ن تقوم دول الخليج بالاحتفاظ بطاقة إنتاجية فائضة لاستخدامها وقت الأزمات بهدف مساعدتكم أليس كذلك؟ فلما أجاب بنعم استدركت قائلاً: من سيدفع تكاليف هذه الطاقة الإنتاجية العاطلة عن العمل؟. إن وجود هذه الطاقة العاطلة عن العمل يكلف دول الخليج مليارات الدولارات دون الحصول على أي عائد مقابل ذلك. لذلك يجب توزيع هذه التكاليف (بالإضافة إلى عائد هذه الأموال لو استثمرت في مجال آخر) على أسعار النفط لكي تستمر هذه الطاقة الإنتاجية.
هل تعلم لماذا بدأت أسعار النفط ترتفع منذ عام 2000؟ لأن أسعار النفط في عام 1998 وأوائل عام 1999 لم تكن كافية لتغطي تكاليف الطاقة الإنتاجية الإضافية ما أدى إلى تدهور هذه الطاقة الإنتاجية بشكل سريع. ولما ازداد الطلب وارتفعت الأسعار لم تتمكن هذه الدول من زيادة إنتاجها فاستمرت الأسعار في الارتفاع.
نظر الرجل إلى ساعته وقال معتذراً والضيق يبدو على وجهه:' آسف عندي موعد الآن، إلى اللقاء'.
وهكذا انتهى اللقاء وأحسست بنشوة المنتصر لأنني قمت 'بتثقيف' راعي بقر! ولكنني ما زلت أتساءل حتى الآن: لماذا لا يكون عند 'رعاة البقر' مواعيد مهمة إلا عندما يواجهون الحقيقة ويحسون بالحرج؟ هل فعلاً قمت 'بتثقيفه' أم أنه صم آذانه وأصر واستكبر؟ عندها زالت النشوة وغرقت في صمت عميق.