من صحيفة الرياض نت كتب الشيخ هذا الموضوع :

من وحي معركة الكتاب




الشيخ - عادل الكلباني

في رسالة غاضبة من أحدهم زمجر فيها، وأزبد وأرعد، واتهمني بأني أرضى بالكتب التي تسب الله تعالى، وهي موجودة في معرض الكتاب!

ذلكم بسبب ما قلت ردا على سؤال وجه إليَّ خلال زيارتي لمعرض الكتاب حول الحساسية الشديدة لدى بعضهم من الكتب التي يسمونها كتب ضلال وانحراف وما أشبه ذلك، فأجبت بأن أهل الحق يجب ألا يخافوا من وجود هذه الكتب، إذ يجب قبول ما فيها من الصواب، وما كان فيها من خطأ، فيجب رده بالبينات والزبر، لا بالشغب وعالي الصوت، وانتفاخ الأوداج.

وبعض إخواننا يكيلون التهم جزافا لكل من خالفهم، ولو في فرع فقهي، وإلا فإن كل عاقل لا يرضى بسب الله تعالى، لا في معرض الكتاب، ولا في غيره، بل إنا لا نرضى بمقال يسب الملك، فكيف بكتاب يسب ملك الملوك!!! سبحانك هذا بهتان عظيم.

ولا نشك أن وزارة الثقافة والإعلام، أو أحدا من القائمين على المعرض لا يريدون نشر مثل هذه الكتب، التي تفسد الدين والأخلاق، وتنشر الجهل، وتدعو إلى الرذيلة، وتحارب الفضيلة، كما يزعم الجهول، وإنما غرض مثل هذه المعارض، في بلادنا أو غيرها، من بلدان العالم، هدفها الإسهام في رقي الفكر، وتنوع الثقافات، ونشر النتاج الأدبي تحت سقف واحد.

ولا ننسى أن القائمين على الوزارة، وفقهم الله، هم اختيار ولي الأمر، الذي سعدنا جميعا بعودته، ورضينا ببيعته، إماما وقائدا، ولسنا في شك من ديانته، وحرصه على نشر الخلق الرفيع، ورفع راية الفضيلة.

إننا ننكر أشد الإنكار اتهام المسلمين بالكفر، والزندقة، والرضى بما يسيء إلى الذات الإلهية، ورميهم بالعلمنة وما أشبهها من تهم أقلها السعي في تغريب المجتمع، والدعوة إلى التبرج والسفور، وهي اتهامات معلبة تصرف لكل مخالف، من دون تمحيص ولا تدقيق!

والمشكلة العظمى أن أكثرهم لا يعرف شيئا عن هذه التهم، وتلك الألقاب، العلمانية، الليبرالية، التغريب، التي يقذف بها الآخرين، سوى أنه سمع فلانا من الناس يقررها في أذنه، ويبرمجها في فكره وعقله.

واسمحوا لي بكل تجرد أن أقول: إن جهل هؤلاء هو الذي ينشر هذه الكتب، وهو من أفضل الدعايات لها، فكم هم الذين يعرفون هذا الكتاب الذي فيه سب للإله، إني أجزم أو أكاد أن كثيرا منهم لم يقرأ كتابا مفيدا، فضلاً أن يقرأ مثل هذه الكتب، فنحن وإن كنا أمة اقرأ، إلا أننا لا نقرأ، ولكن أحدنا يسمع من محتسب نقدا لكاتب أو لكتاب فيطير بها فرحا وينشرها في الآفاق.

ومن دلائل ذلك أن أحدهم استوقفني وأراد أن يناقشني في رأيي في الغناء، وكان مما قال إنه ينكر أن الحبشة لعبوا في المسجد، فقلت: سبحان الله، الحديث في البخاري! فقال: ليس في الصحيح، فقد سألت الشيخ فلان، وقال ليس في الصحيح؟ قلت لا يحتاج الأمر أن تسأل الشيخ، دونك البخاري فاقرأ الحديث فيه. قال: ألا تريد أن نسأل المشايخ؟

فانظر إلى أنموذج ممن دخل ساحة المعركة في المعرض، وهو مسلح بالجهل المركب، ولا يحمل إلا طيشا سموه غيرة واحتسابا، والغيرة والاحتساب وإنكار المنكر عنهم بعيد، فالمنكر لا بد أن يكون ظاهرا، فأين هو في كتاب لم يعلن عنه ولم يروج له، وإنما هو كتاب فوق رف بين ألوف من الكتب!!!

إن إنكار المنكر بهذه الطريقة الحربية، والاستفزازية، مع تجاوزها لمن خول لهم ولي الأمر تلك المهمة افتئات على ولاة الأمر أنفسهم، وهو منكر بحد ذاته، ثم هو تشويه للإسلام وإظهاره بمظهر الغوغاء والسوقة، وهذا منكر بحد ذاته أيضا.

وهو أيضا جهل بالواقع، إذ يظن المنكرون أن منع الكتاب من هذا الرف سيلغيه وسيلقي به في غيابات الجب، وغفلوا عن أن المرء في عصرنا هذا بتحريك (فأرة) وضغطة (انتر) سيجد بين يديه أي كتاب أراد، بل سيجد مكتبة شاملة، وغفلوا أيضا عن أن الكتاب يسهل وصوله إلى البيت بال (دي اتش ال) أو (أرامكس) وغيرها! وحينها فلن يقدر على قطع طريقه حجاب الفكر.

أين أنتم، وفي أي عصر تعيشون، نحن في زمن الفكر والتقنية، لا في عصر الترهيب والتهديد!

وما هذا بديدن الإسلام، وليست هذه روحه، فالإسلام حياة، وروح، تعيش دوما في تجدد وعطاء لا ينفد، روح تؤثر، ولا تتأثر، توازي كل عصر، وتعطيه ما يناسبه من ثقافة، وعلم، واتساع مدارك، تشعل جذوة العقل ليفكر، ليعمل، لينتج، خاصة في زمننا هذا الذي كثرت فيه الأسئلة الحيرى: لماذا؟ وكيف؟ ولم؟.

هذا هو الإسلام الذي جاء النص فيه بقوله (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) أي بالحجج والبراهين، بالأدلة، أدلة مقنعة، تجيب عن كل ما يدور بخلده، وربما تردد في صدره، بالإقناع، بالمنطقية، بالواقعية، بالحق الأبلج، لا تسلط فيه ولا عسر، ولا إرهاب فكرياً، ولا تسلط احتسابياً، بل فيه (لا إكراه في الدين) وفيه خطاب لسيد المرسلين (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وفيه خطاب لمن كادت نفسه تذهب على المعاندين حسرات، فيقول له (ليس لك من الأمر شيء) . (إن عليك إلا البلاغ)

وعاش ديننا بين ظهراني المشركين، بل والمعذبين والمحاربين له ثلاث عشرة سنة، وهو ينمو ويكبر ويزكو، وعاش عشر سنين بين المنافقين، وحربهم وإرجافهم، وما زاده ذلك إلا انتشارا وعلوا.

ديننا نور، فلماذا نخاف من الظلمة، ديننا حق، فلماذا نخاف من الباطل، والله يقول: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه)

لكن لما عجزنا عن المحاورة، وأعيتنا الكلمة، ولم نملك الحجة، سلطنا ألسنتنا ولبسنا بشوتنا، نرعب الناس بها، ونهيبهم بزريها من خواء الفكر عندنا، وضعف الحجة لدينا، وهذا ما دعاهم لاستعمال أيديهم، ورفع أصواتهم، فكل من لا يملك حجة ينحو إلى الصراخ!.

وتذكرت وأنا أراهم يتسوقون ببشوتهم كيف كان أغير الناس على الإسلام، وأصلبهم تدينا، وأحكمهم وأرشدهم عقلا - صلوات الله وسلامه عليه - يركب حماره، ويمشي في الأسواق، ويساوم، ويبتاع ويشتري، وينام على حصير، ويأتي الرجل من خارج المدينة فلا يكاد يميز بينه وبين عوام أصحابه صلى الله عليه وسلم، لسهولته وعدم تميزه وتواضعه، وعدم تصنعه، ومع هذا بلغت رسالته بحكمته ما بلغ الليل والنهار وسارت تسابق الشمس، فأصبحت لا تغيب عنها أبدا.

ونناقض أنفسنا ونحن نحاول أن ننكر في معرض الكتاب ما يوجد بكثرة في أسواقنا ومكتباتنا، فأنت ترى في أي مكتبة تدخلها رجلا وامرأة، أو رجلا وحده، أو امرأة وحدها، ثم ماذا؟ هل نمنع الخير عن أهله لأن هناك من لا يريده، هل نحجر على عقول المنفتحين لأن هناك عقولاً لا تقبل الانفتاح، ولا تريد التفكير، وتأبى إلا أن تظل أسيرة مسلسلة يقودها من لا يعرف كيف يخطم البعير!!!!



.