المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرِّبِّيُّ



محمود توفيق
August 19th, 2009, 19:30
في الصَّباح الباكر، حيث تتثاءب الرِّياض العاصمة، وتتمطَّى قبل ازدحام الشَّوارع والضَّجيج، ساعتان قبلَ ميعاد العمل، أمشي تحت شمسٍ هادئةٍ وحدي، أسمع من تمام السُّكون دفَّ نعليَّ على الرَّصيف، أخطو تحت سورٍ عالٍ وطويلٍ، لمقبرةٍ مهيبةٍ تحتلُّ خاصرة البلد، وثمَّة أبَّهة للموت، وسورها كأنه يتمدَّد، يتمدَّد ويسايرني، أنا وهي، ولا أحد، فأمشي، ولا تزال تمشي معي، ثمَّ أمشي وأمشي، ولم تتركْني قطُّ، تلك لعبةٌ جذَّابةٌ ومقلقةٌ.

- علامَ نويت؟!
- علام نويت؟
- ليس بعدُ، اتركيني رجاءً.

ظلَّتِ المطاردة إلى وقتٍ طويلٍ، حتى انتابني خوفٌ طاغٍ جثم على صدري، واستبدَّتْ بي الظُّنون، ورأيتُ فيما رأيتُ تلك الدُّنيا كلَّها وكأنها في وجه المقبرة إلى ما لا نهاية، ورأيتُ أني قد جئتُ للموتَى من عند موتَى، وأنَّ ما يظهر من حياةٍ في نهار الحراك ما هو إلاَّ وهمٌ يتبدَّد فنعود للموات، وأن ساعة الصُّبح هذه ساعةُ حقيقةٍ سطعتْ، وأنني جئتُ على قَدَرٍ، وأنه لا فَوْتَ، وأنه قد يتخوَّتني الموت[1]، يتخوَّتني الموت الذي أسمع غطيطه الآن إذا ما عبَرْتُ إلى الرَّصيف الآخر، مثلما ينقضُّ السَّبع على الفريسة الغافلة التي يتحيَّن وقوعها، إذا ما انتبهتْ ولاذتْ بالفرار.

إذًا؛ أثبتُ أنا، ويثبت الموتُ، فهل اتَّفقنا؟ أقول: هل اتَّفقنا؟ ولا مجيب!

للمارِّين في شارع البطحاء يوميًّا لا شيء غريب، فالموت هنا نائمٌ بالجوار لا أكثر، إنهم يمرُّون من أمام المقبرة وكأنهم لا يرونها، يتعامون عنها؛ الحياة والموت عندهم عالمان متجاوران لا يبغيان، أمَّا لمن كان مثلي، فله قصَّةٌ أخرى: أنا لست ذاهبًا للشِّراء من شارع البطحاء، أبدًا، ولا كنت في دربي إلى صاحبٍ أعرفه ويعرفني، وليس لي بالبطحاء حاجةٌ فأقضيها، أحبُّ أن أكون من أبناء الآخرة، ومدينةُ الأجداث[2] تلك التي تجثم على صدر البطحاء، وتَرَى ولا تُرَى، تعرفني كما تعرف مَن عمَروها، إنها تريد أن تفتح بابًا لي وحدي من دون القلَّة السَّابلة، هي تعرف تمامًا أني مررتُ من هنا؛ حتى أراها؛ فأتذكَّر وأخشَى.

نادتْ: يا هذا، من يمرُّ بغير حاجةٍ عند مقبرةٍ، فالموتُ حاجتُه.
قلت راجيًا: حنانيك، لا حاجة لي إليه الآن؛ لعلِّي أعمل صالحًا فيما تبقَّى.

الشَّمس تترقَّى، وبدأ السَّعي شيئًا فشيئًا، وأخذ وجهُ الأرض يتغيَّر، وتوارتِ الحكمة بعيدًا عن وقْع أقدام السَّاعين إلى لقمة العيش وأبواق عرباتهم، وشُفيتُ من رهاب الموت ضحًى.

وتزاحمتْ على مخيلتي وجوهٌ قد تجعَّدتْ لأهل الزِّحام والمدينة، وأحلام الرُّقيِّ، وفرصة العمر، وضربة الحظِّ، وتأمين مستقبل الأولاد، ولمن أرهقهم الله في الدُّنيا صَعُودًا، وصنمٌ صارم الوجه مخبوءٌ بمؤسَّسات الأعمال اسمه (التارجت)[3]، يسجد له أناسٌ تقطَّعتْ أنفاسهم، وأناسٌ أوشكوا على السُّجود، وأناسٌ يبكون، وأناسٌ أوشكوا على البكاء، ومن خلف غبار كلِّ هؤلاء، ومن فوق أوحالهم وأحوالهم، رأيتُ وجهًا مطمئنًّا كأنه يطلُّ على الموتَى الأحياء من عند المقبرة، وجه رجلٍ أحبَّ لقاء الله، فأحبَّ الله لقاءه، يودُّ لو يقول في الغافلين: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].

أريد أن أنفذ من بين زحام هؤلاء وغبارِهم وثرثرتِهم، وأسهمهم الحمراء والخضراء وأقساطهم، إلى ذلك المطمئنِّ وجهًا، إلى ذلك الرِّبِّيِّ[4] الذي ارتحل، وأبكي على كتفه طويلاً طويلاً، وأنا قد فاتني حظٌّ كثيرٌ؛ لم أطلب علمًا منه قطُّ، ولم أَثْنِ ركبتيَّ عنده للأسف، ولم أقرأ شرح كتاب الزَّركشيِّ عليه يومًا، حتى فاتني أن أصلِّي عليه صلاة الجنازة يوم أن صلَّى عليه ربًى[5]، وجاؤوا من كلِّ بلدٍ بالمملكة.

ما جئتُ اليوم كي أموت يا (مقبرة العود)، ولا للأمن قد جزتُ، فلم أستعدَّ بعدُ كما استعدَّ عبدالله وقام يدْعوه، بل شدَّني الحنين إلى الرِّبِّيِّ الذي لم أرَه، شدَّني الحنين إلى (ابن جبرين) في ساعة صحوةٍ فيما قبل الدَّوام.


ـــــــــــــــــــ
[1] يتخوتني: يختطفني.
[2] الأجداث: القبور.
[3] التارجت: المبيعات المستهدفة، وكثيرًا ما تكون الأرقام شرسة تشغل العاملين عن كل شيء.
[4] الربي: العالم التقي الصابر.
[5] ربى: جمع ربوة، والربوة هي الجماعة نحو عشرة آلاف.

نجم سهيل
August 23rd, 2009, 17:44
، لمقبرةٍ مهيبةٍ تحتلُّ خاصرة البلد، .


خاصرة البلد،!!

أطربني جدا هذا الوصف البليغ




وثمَّة أبَّهة للموت



والله إن للموت أبهة ليست كأي أبهة نراها تغشى الوجوه الربية ومن سار على أثرها وإنها لعمري أبهة مجللة بهيبة الموت التي شاهدتها بأم عيني مرارا على وجوه راضية مرضية برضى الله ونوره و سمحة حتى في موتها






{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }



{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ }الفجر27



{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً }الفجر28





رحم الله من رحل من علمائنا الأبرار ورحم جميع المسلمين والمسلمات



وهناك في مقبرة العود وقفت ذات يوم باكيا على قبر والدي كما وقفت في يوم عيد من أعياد الفطر على قبر شقيقي الذي ربيته ولكن مشيئة الله جعلتني أقفل لحده بيدي




نادتْ: يا هذا، من يمرُّ بغير حاجةٍ عند مقبرةٍ، فالموتُ حاجتُه.



ليس بملكك يا إنسان أفرأيت كيف تفر من الموت فرار ؟؟



ذلك أنه الحق المكروه ؟ الذي تعلم علم اليقين أنه مدركك لامحالة



ولكنك تتكبر وتطغى وأنت سادر في غي الدنيا وعشقها ناسيا ومتناسيا



جبروت وقسوة هازم اللذات ومفرق الجماعات



ولكن عش واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا



وعش واعمل لآخراك كأنك تموت حالا لاغدا






وشُفيتُ من رهاب الموت ضحًى




ولكن مصدر رهاب الموت يأتي من من ضعف الوازع الديني فهو أشبه بريح عاصف تهوي بالموسوس برهاب الموت إلى مكان من ظلمات النفس سحيق



والله يا أستاذ محمود أنت مبدع وآية في الإبداع التصويري فهل تأخذ بيد إلى مدرستك وأنت أحد رواد القصة القصيره ؟

محمود توفيق
September 4th, 2009, 17:26
عمنا الكريم نجم سهيل
تقبل الله منك صالح الأعمال ، وبلَّغك العيد على خير حال
أعجبتني قراءتك وسعدت بركيم تشجيعك العهود
وقد كان لي دومًا حظٌّ وافر من تشجيعك لا زلت أحفظ ما تكتب عن قصصي
و لا أنسى أبدًا أنك واحد من أهم من نوهوا إليَّ ووجهوا القراء لي

الشكر متجدد لك ، وموصول لكل أحبائك ورفقاء دربك في عالم الإبداع بفضاء الإنترنت

҈ ۩҈ زرقـاء الـيمامــة ۩҈
September 7th, 2009, 01:52
لافُض مدادك
وسلمت يمينك
ننتظر جديدك

مزاااج
September 12th, 2009, 13:35
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،

اتسائل يا استاذ محمود هل ستقبل عذري لتأخري ام لا ؟!
ولعلمك فإن قبلته أنت فلن أقبله أنا !!

فرغم وضعنا للبنر في واجهة المنتدى إلا اننا قد انشغلنا عن رائعتك ايها الرائع ولكن مهما انشغلنا فلن ننسى أن بيننا كاتب كبير بعلمه وأدبه ومؤلفاته .

لله درك يا استاذ محمود .. فأنت تسافر ومن خلال كلماتك بالمتلقي الى حيث تشاء وتضعه في الصورة بل وتُسمعه صوت الخُطى وجلبة الماَرّة .. تجعله يتحسس الجدار بيديه .. ويشمّ رائحة الموت المشرّف هناك والتي نالها عبدالله ابن جبرين !! .. بل إنك تبعث على الإلهام فتجعل المتلقي يبعثر ذاكرته باحثاً عن صور مماثلة ومن اتجهات مختلفة .

انا لستُ متذوق جديد لماتكتب .. ولكنني متابع "متأخر" دائماً :) .. يرغب بمزيد منك أيها الرائع فلاتطيل الغياب رعاك الله .

ملكة الايمان
September 12th, 2009, 16:32
ماشالله موضوع حلو

ابوعبدالمجيد
September 13th, 2009, 23:56
بارك الله فيك يا استاذ محمود
قلم جميل وتصوير يحاكي القارئ
تقديري لك

شيخ النظر
September 17th, 2009, 06:15
رحم الله شيخنا بن جبرين

وجزاك الله خيراً أيها الأستاذ الجميل

وأسمحلي بأن أدعوك ناقوس الحروف فإني أسمع لحروفك جلجلة...