المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكايات على جدران الحجرة



شقردية طيبة
June 11th, 2014, 23:48
نهى محمود (الأهرام) : أتفهم عدم قدرتى على النوم، وأعرف أسباب كل هذا القلق.. صوت هامس ينبع من الفراغ، من مصدر غير معلوم، هو ما حثنى على عدم النوم قبل لملمة الحكاية التى تجمعت فى قصاصات صفراء على حائط بيتى، لو عاش معى أحد غير قطة رضوى شبه العمياء وشبح جدتى لتمكن بسهولة من سرقة الحكاية كلها، وربما نشرها فى كتاب.. وكان علىّ أن أطارده فى ساحات المحاكم طيلة ما تبقى من عمرى، قبل أن يشهد أربعة من أصدقائه على الأقل أنه كان يكتبها وهو جالس معهم بالمقهى، وأنهم قرأوا عشرات المسودات لها قبل أن تصبح كتابا شهيرا، ويخبرنا ناقد أو اثنان أن لا حكاية من قصتى وقصة الكاتب الآخر ـ رغم تطابقها ـ مقتبسة من الأخرى، الأمر فقط أن البشرية كلها تقف على نفس رقعة الشطرنج، وتغوص فى نفس الوحل من المشاعر والخيبات والأحلام الزائفة.

http://www.ahram.org.eg/Media/News/2014/6/5/2014-635375843258126798-812.jpg

الصوت الهامس الغامض يخبرنى أنى سأموت لو توقفت عن الكتابة على تلك القصاصات الصفراء التى تدخر مشروعا للكتابة، فى الحقيقة هى مسودة كتاب بقيت عشر سنوات لدى هاجس أنى سأكتبه يوما.. أنا التى احتفظت بمذاق الحياة مجمدا فى درج الفريزر الخاص بى حتى أستدعيه يوما على الورق.

سعد لم يكن الحبيب الأول، لكنه كان مؤثرا مثل الحب الأول.. أنا مدينة له بأنى أصبحت قادرة على إتمام سطور الكتابة لنهايتها.. قبله، كنت أكتب الشعر وألقيه بشكل سيئ على مسرح الكلية، عندما كتبت يوما قصة قصيرة عن أطفال الشوارع، وناولته الورقة ليقرأها، سألنى: لماذا لا أكمل السطر، كنت وقتها أضع ثلاث أو أربع كلمات فى السطر الواحد مهما تكن طبيعة ما أكتب، كانت الطريقة الطبيعية لرص الكلمات تخنقنى وتشعرنى بالعجز عن مواصلة الكتابة.

سعد كان رجل السطور المكتملة، وأنا فى مطلع العشرينيات.. تعلمت منه ـ أيضا ـ أن أفرد أصابع قدمى عندما أرتدى «صندل بناتى يظهر أصابع قدمى»، أصابع قدمى الجميلة التى أعتنى بها جيدا وأصبغها دائما باللون الأحمر مثل «صديقة أمى» التى كانت تدارى أثر مرض السكرى على أظافرها وأصابعها بالكثير من الأحمر على قدميها، قبل أن تبتر واحدة إثر نوبة سكرى طاحنة أصابتها.

وظلت ما تبقى من حياتها تتساءل عما تفعله قدمها الأخرى الآن، فى أحيان أخرى كانت تخبرنا أن قدمها جاءت لزيارتها، وأنها سمعت صوت دقاتها فى طرقة البيت.. كانت بصحة جيدة وتضع طلاء أحمر، وقالت لى إنها سبقتنى إلي الجنة.. كانت تقول ذلك قبل أن تصمت بحزن ولا تعود للحديث باقى الليلة.

كنت أضم أصابع قدمى بخوف غريب من السقوط، كنت أظنه سريا عندما أسير، لكنه فاجأنى ذات مرة تمشينا فيها جوار النهر، وسألنى لم أضم أصابع قدمى وأثنيها بكل هذا القلق والخوف؟، قال لى افرديها ولا تخافى، والحقيقة أنى جربت ذلك فى الأيام التالية ونجح.. كيف يمكن أن تفارق رجل علمك كيف تكملين سطور الكتابة وتفردين أصابع قدمك بلا خوف لتتقدمى نحو الحياة.

الحبيب الأول يذكرنى بسذاجتى اللعينة، والتى ساعدتنى حياتى على التخلص منها كأن ألقى أكياسا من الرمل فى البحر كل ليلة دون أن يلاحظ الآخرون، أنا تخلصت من أكياس رمل كثيرة فى حياتى ومن رجال ومن أحلام ومن أحزان، لكن دائما وبشكل سرى تمتلئ الجعبة من جديد.

فى منتصف الثلاثينيات الآن، وكان علىّ أن أتوقف عن الكتابة على القصاصات تجهيزا لمسودة كتاب لن أتمه أبدا.. كان علىّ أن أتوقف عن عزف الجيتار الذى بدأت تعلمه فى منتصف العشرينيات بعدما أنهيت الدراسات العليا فى النقد الفنى.

أخذت ذلك القرار بعدما تركنى صالح، لأنه شك أنه لم يكن الرجل الأول فى حياتى.. أحاول الآن أن أتذكر من أين جاءته هذه الفكرة، لكنى لا أذكر أو لا أريد فى الحقيقة.

كان علىّ الآن أن أتوقف عن كورسات تعلم اللغة الألمانية بعدما أتقنت الإيطالية فى نهاية العشرينيات، كان ذلك بعد زواج عامر من صديقتى، تركنى من أجل صديقتى ذات الأنف المكور مثل بلياتشو.

لا يهم كل ما كتبته على القصاصات... ماض وانتهى سأزيلها كلها، وأتوقف عن تعلم الأشياء الجديدة، سأكتفى برسم اللوحات، لأنها الشىء الوحيد الذى لم يخذلنى منذ بدأته فى طفولتى.

سأرسم اللوحات، وأزيل القصاصات الصفراء، وأنسى كل الأوغاد الذين ملأوا حائط البيت، وسأذهب غدا للميعاد الذى رتبته لى صديقة أمى التى تعتبرنى بمثابة ابنتها بعد موت أمى وهروب ابنتها من البيت مع صديق والدها.

يجب أن أهدأ وأستعد لمقابلة الغد، ربما أجرب الطريقة القديمة للوقوع فى الحب، لكن من الذى ذكر الحب الآن؟، أجل أنا الآن أفكر فى الزواج، لقد وقعت فى الحب ما يكفى عشر فتيات دفعة واحدة، الآن أنا أزيل القصاصات وأفكر فى الزواج.

سأخبره أنى أرتدى ملابس داخلية رجالى، لن أتركه يمضى بعيدا بخياله، سأصحح الجملة فأخبره نصف ملابس داخلية رجالى، فقط الفانلة الحمالة البيضاء.

الرسم هو السبب، أنا أحتاج لشىء طرى وتظهر فيه البقع بوضوح لتكتمل حالة الإبداع.

الرسم والاكتئاب لهما ذات الزى، كلما اهترأت الفانلة، واحتفظت ببقع باهتة عصية على الإزالة، ازدادت حميمة وقربا منى.

ثقب عند البطن أو اثنان سيجعلاها غالية مثل أحد أخواتى، هل سيتفهم مزاجى هذا أم سيظن بى شىء؟.. أعرف عقول الرجال، صغيرة وتافهة ولا تتقبل الحقائق، شريك أساسى فى «فنون كيد النساء» عبر تاريخ البشرية كله...

لو كانوا يتقبلون الحقائق كما هى، ما اخترعت النساء كل طرق اللف والدوران،

ربما سأمسك عنه بعض الأمور الأخرى، كلا، لا يمكننى أن أخفى عنه شيئا.. ذلك يضرب صميم مبادئى، ربما أؤجل الحديث عنها فقط، لا يصح أن نتقابل للمرة الأولى، فأجلس أمامه، وأتنحنح قليلا ثم أقول له إنى أخاف من تهذيب أظافرى.. أحتاج لمن يفعل ذلك لى.

عندى مشكلات واضحة مع الكهرباء، لا يمكننى استخدام الخلاط، ولا أمس اللاب توب حتى ينتهى شحنه.

لا أصعد فوق الكراسى، لأن ذلك يفقدنى توازنى ويشعرنى برغبة فى البكاء.

لن يستطيع أن يعتمد علىّ فى تربية قط، لأنى أعانى حساسية تجاه القطط ربما نقلت لى قطة رضوى عدوى ما قبل موتها لا مزيد من القطط فى حياتى، لدى حساسية ـ أيضا ـ من البنسيلين، يجب أن أخبره عن حساسية البنسيلين، حتى لا نتعرض لموقف طارئ يضطر معه أن يحقننى به دون إجراء اختبار الحساسية، لا أريد أن أموت موتة شبيهة بها كل هذا التورم والإحمرار.

سأخبره أن دخولى المطبخ للطهى يشعرنى بالملل، ويملأ قلبى بثقل لا يفعله شىء آخر، لكنى أحب الخضار المطهو بالبخار، ولا أتناول سوى اللحوم البيضاء.

لا يمكنه أن يهدينى أبدا الشيكولاته أو الورد.. كلاهما يملأ البيت بالنمل.

النمل ذلك المخلوق المضلل يستهين به البشر، لايعيره أحد أى اهتمام، لكنه كارثى وقاتل، من الممكن أن يلتهم أثاث بيت كامل دون أن يطرف له جفن.

ربما يدخل من فتحة أنف أو من أذن ويأكل أحشاء إنسان كاملة، حكت لى صديقة جدتى جانيت هانم ذلك، قالت لى إن النمل دخل من فتحة أنف أحد خدمها والتهم دماغه كاملة بينما كان نائما.

النمل أكل ـ أيضا ـ الحفيد الأخير لخوسيه أركاديو بوينديا «بطل مائة عام من العزلة»، أجل هكذا جاءت جملة الختام، أول الذرية يموت تحت شجرة الكستناء، وآخرها يأكله النمل، «لا لا يمكنى أن أقبل هدايا من هذا النوع».

ربما يهدينى فرش ألوان، أو أقلام رصاص hp، كراسات كانسون.

أدخن سجائر رخيصة، لأن النيكوتين والقطران بها يلائمان مزاجى، مشروبى المفضل هو اللبن البارد فى كوب شفاف.

أرتدى جوارب ملونة صيفا شتاء، لأنى أمضى حافية فى المنزل، وأرتدى أحذية رياضية فى الشارع.

لا أحب القيادة، وأفكر بالموت فى حوادث الطريق كل يوم وأنا أمر على الطريق السريع، كل يوم بنفس الهم، وبلا ذرة تلهى واحدة.

أغنيتى الأجنبية المفضلة هى «I have nothing» لويتنى هيوستن، فيلمى المفضل هو «u have got mail» أشاهده كل يوم قبل النوم.

فى الخمس سنوات الأولى التى كنت أشاهد فيها هذا الفيلم قبل النوم كنت أقول لنفسى سأمر بمغامرة مرح مثل تلك سأقابل توم هانكس.

فى السنوات التالية كنت أبتسم ابتسامة صفراء هادئة، وأتمتم لنفسى دون أن تسمعنى «ابقى قابلينى»، فى الآونة الأخيرة أصبحت مشاهدة هذا الفيلم تترك آثار الإمساك المزمن، شعور شديد بالإحباط وعدم الراحة.

عندما أقابله غدا سأتجاهل مشاعرى الأخيرة تلك تجاه الفيلم، سأبتسم فى وجهه ابتسامة هادئة تميل للرومانسية، ربما أتنهد وأقول له أحب فيلم «u have got mail» وأشاهده كل يوم قبل النوم.

لونى المفضل هو البنفسجى، هذا يفسر الكثير منه فى لوحاتى، وعلى جدران البيت، أبغض اللون الأصفر.. لكن أحبه فى جملة واحدة فى كتاب.

جملة كتبها ماركيز.. كانت تصف زهرة دوار الشمس.. كانت تقول: «انظروا هناك، حيث تتوهج الشمس بشدة بحيث لا تعرف أزهار دوار الشمس إلى أى اتجاه تدور، أجل تلك هى قرية استيبان».

أنا أحفظ هذه الجملة عن ظهر قلب، الحقيقة أنى أحفظ مقاطع كاملة من كتب أحبها، لكنى سأخبره بهذه الجملة غدا.

سأحرك الكرسى للوراء، وأترك القهوة من يدى كأن الإلهام مسنى، سأنهض واقفة، سأحدق فى نقطة خلفه ربما الفراغ، وأحرك يدى للأمام وأنا أنطق بدايتها: انظروا هناك، وأبتسم عندما تجىء سيرة زهور دوار الشمس، ثم أعاود الجلوس عندما أنهى هذا المقطع كاملا.

لن أنسى أن أعلق بشىء من التواضع، دوار الشمس هى نفسها عباد الشمس التى نصنع منها الزيوت، لكنى قرأت هذه الجملة فى ترجمة باللهجة الشامية، فى هذه البلاد يقولون «دوار» بدلا من «عباد».

ستستدعى سيرة الزيوت، ساندويتشات الفول بالزيت الحار، هل أخبره أنها إفطارى المفضل؟

ربما سأكتفى فى هذه المرحلة من العلاقة بأن أخبره أن فكرة الإفطار لا تستهوينى أصلا، عندما يجىء الغد سأخبره بأشياء كثيرة كل ما عليه فعله الآن هو إزالة كل القصاصات الصفراء لمسودة الكتاب الذى لن أكتبه أبدا.