محمود توفيق
April 25th, 2009, 19:14
يتقدَّم إليه على الطَّريق المعفَّرة، نِطاسيٌّ[1] فوق بغلة نشيطة تهملِج[2]، يعتمر عمامةً كبيرة مهيبة، ويرتدي جبَّة، وأمامه سِفْر ضخم من ورق أصفر، وبين يديه غلام من الزِّنج يحمل قنديلاً يضيء له المسير، توقَّف عنده وترجَّل، وسكت قليلاً، ثم أشار إليه بسبَّابته وهو يهزُّها، بهدوء تكلَّم، وبابتسامة العارفين[3]:
يَا طَالِبًا بوريطش الحُكَمَاءِ عِ مَنْطِقًا حَقًّا بِغَيْرِ خَفَاءِ
هُوَ زِيبَقُ الشَّرْقِ الَّذِي هَتَفُوا بِهِ فِي كُتْبِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الأَشْيَاءِ
سَمَّوْهُ زَهْرًا فِي خَفِيِّ رُمُوزِهِمْ وَالخُرْ شُقُلا أَغْمَض الأَسْمَاءِ
- زيبق الشَّرق؟! (يردُّ على النِّطاسيِّ الذي أتاه بعين يملؤها الوله والشَّوق)، زدني، زدني.
فتح النِّطاسيُّ السِّفْر المغلَّف بجلد الغزال، وأخذ يقلِّب في صفحاته بعين خبير منهمك، وهو يقرأ سرًّا، ويزوم بأصوات عجماء من أنفه، بأصابع قد تختَّمت بخواتم ضخمة من الفيروز واليَشْب، يلعب في لحيته البيضاء المرسلة على الصَّفحات، حتى توقَّف عند صفحة ما، وأخذ يدقُّ عليها بظهر كفِّه، وأشار له ليقوم؛ ليريه سرًّا من أسرار الحكمة (هو زيبق الشرق الذي هتفوا به في كتبهم).
هيَّا قُمْ، هذا وعدك، فهذا الذي كان سرَّ عادٍ الأولى.
هَمَّ أن يقوم له متحرِّقًا، استند بكفَّيه على التراب، غير أنه تبلبل بريح أثارتْ غبرًا، وهزَّت مصابيح الإضاءة، ضيَّق حدقتيه، استفاق من نداء النِّطاسيِّ، النِّطاسيُّ غمَّته زوبعة، أخذ يضمحلُّ فيها حتى اختفى، وقد ماعتْ كلماته شيئًا فشيئًا، حتى ذابت في عزيف الرِّيح.
ما عاد أحد أمامه غير واقعه المرير، وخَيبته، والمارُّون في ساحة (الحراج)[4]، فيلتفتُ لها ببطء وهو يتمنَّى لو كانت حلمًا ووهمًا، غير أنه وجدها بجانبه: آلة (سنجر) عتيقة للخياطة، وجرو أسود فضوليٌّ يتفحَّصها ويتشمَّمها، زجر الكلب حتى ابتعد، أطرق للأرض مخزيًّا من حاله وأوهامه.
كم من سنين مرَّت عليَّ هنا زائرًا كريمًا؟ منذ أن جئت أوَّل مرَّة في طفولتي، أهكذا النِّهاية؟ أهكذا النِّهاية يا حراج (بن قاسم)؟! أفترشُ الأرض ومعي آلة خياطة، أودُّ بيعها بأيِّ وسيلة حتى أستردَّ مالي؟!
أخذ يتذكَّر الأيَّام البعيدة له هنا، للصَّبيِّ الذي كان يأتي مع أبيه، ثم ينسلُّ منه بلطف، ويذهب إلى بُسُط النُّحاسيَّات والأباريق والقماقم، مشدودًا إليها، ويحكُّ في المعروضات التي تثير انتباهه، لم يخرج له المارد من القمقم أبدًا؛ ليكافئه على أنْ فكَّ أسره الذي طال من عهد النَّبيِّ سليمان - عليه السَّلام - وقد كان يحلم بالتُّحَف، والطَّيِّبات، والطَّعام الشَّهيِّ، والثِّياب النَّاعمة، وأسفار بعيدة على بساط الرِّيح.
اليوم ها هنا يجلس ذاك الطفل الخياليُّ رجلاً يرتدى ثوبًا سَمَلاً، و(شماغًا) وسِخًا، يداري به نصف وجهه، وقد غيَّر ملامحه بشيء من الحيلة، وارتدى نظَّارة سوداء كبيرة، بدَّل هيئته قدر المستطاع؛ حتى لا يتعرَّف عليه أحد من روَّاد (الحراج)، وقد جاء بائعًا هذه المرَّة.
منذ ثلاثة أيام فقط كان هنا، في حال غير الحال، وفي ثوب غير الثَّوب، يحدوه الأمل، في تلك النَّاحية هناك، وقف ينافس المساومين ويزيد عليهم، حتى اقتنص كنزه بكلِّ ما يملك من مدَّخرات.
(عليَّ بخمسةَ عشرَ ألفًا، ومالي معي)؛ قالها بعد أن مرَّر الجوَّال من أمام إبرة آلة الخياطة، فانقطع الإرسال، وكاد أن يتوقَّف قلبه من الفرحة العارمة.
(حلالك)؛ قالها البائع، فقدَّم له صاحبنا المال، ثم حمل آلته ومضى وهو لا ينظر خلفه، وقد كان خلفه عيون تحقد عليه، على ذلك الذي اختطف الحلم دون الآخرين.
والجنيُّ حتمًا يأتيكَ مضطرب المِشفر، يتوسَّل إليك؛ كي يأخذ قطرة من إكسير الحياة الذي في المِخيَط: الزِّئبق الأحمر! في حجرتكَ المظلمة عليكَ أن تنتظره، يأتيكَ في آية من الدُّخَان والهيبة والأطيط، وأنفاسه تسبقه، أنفاسه التي تسبقه ستهزُّ الفانوس الأحمر المُضاء في أوَّل الرواق، سيرتجف له جسدك، وتعاني قليلاً من وطأة حضوره الشعشاع الرَّهيب، ثم يظهر بدن عظيم سمين، وقد ارجحنَّ[5] في مشيه إليك كما يرجحنُّ الدُّبُّ في سيره منتصبًا على اثنتين، إن جاءك فلا تخافه، اثبتْ في مكانك بلا وجل، وأعطِه بقَدَر، وإن استزادك فلا تزده؛ حتى يظلَّ رهينًا لكَ، عبدًا مِنقبًا يفتِّح الكنوز التي قامت عليها الجنُّ رَصَدًا، ويلقيها صاغرًا بين قدميك، وغوَّاصًا يريك عجبًا من قِيعَة الأبحُر، وجوَّابًا يُطرِفك بخبايا الجُزُر النائية، ويطير إلى القرون مما كان قبلك، فصدِّق أو لا تصدِّق، في الماضي سيلاحقُ - عفوًا - لاحقَ قافلة للسُّلطان يغمرها البدر في ليل الصَّحراء، خطف من فِضَّة الجواري المكنوزة خلف الصُّوف التَّهاويل[6]، ثمَّ أتاك في زمن الحديد.
أضاء الفانوس الأحمر الصغير في أول الرواق، وأطفأ نور الحجرة وانتظر، مرَّ به الوقت ولم يتجلَّ له شيء، أخذ يتمتم طويلاً حتى كاد أن يهذي، والفانوس ساكن هناك، لم يهتزَّ من أنفاس الجنيِّ القادم، ولم يشعر على رأسه بوطأة الحضور إلاَّ وهمًا قليلاً، مع كلِّ قطرة ماء تنزل في الحوض تكسر السُّكون، كان قلبه يرجف؛ أملاً في الحضور، هذا هو! أبدًا أبدًا، تلك قطرة ماء، ومع جويل الرِّيح بالأوراق في الشُّرفة، ومن صرير الباب المفتوح، أهو؟! كلاَّ كلاَّ، لا تتعجَّل، ودعا الجن بالعزائم الشِّداد، وقد انتفخ ودجاه، واحمرَّ وجهه، وانتظر، وندب الروحانيَّ يتلوان سويًّا، وانتظر، لم تتشمَّم الجنُّ بخراطيمها رائحة الزِّئبق حتى مطلع الفجر، ولم تهزَّ الفانوس بأنفاسها أبدًا!
حاول مرَّة وأخرى، ثم حاول في اللَّيلة الثانية، حتى يئِس، وأشعل النُّور، وحطَّم الفانوس، ولم ينم، كانت تلك كذلك ليلة سوداء.
في اليوم التالي بوقت العصر، أخذ بَلْوَاهُ السَّوداء في السيَّارة، وجاء اليوم يبيعها في نفس (الحراج) الذي تخطَّفها منه، يجلس خزيانَ حزينًا على نفسه، يرى الموات في كلِّ شيء، والحزن والغبار في وجه السَّماء، ووجوهُ البشر كالحة، وأصواتهم يأس، وسيرهم كَسَل، وفي أنفه رائحة كرائحة الخبز المتخمِّر، وفي عينيه دمعة متحجِّرة.
ويلي! خُدِعت فيها شرَّ خِدعة، وها قد جئت اليوم، أبيع على خلق الله بيع الدَّلْس[7]، أنتظرُ غفلاً، فيحمل عني أحلامي السَّاذجة، ويردُّ لي مالي، لكن، أنا لا أصدِّق أني عشت وهمًا وأُكذوبة غبيَّة، كثير من النَّاس اغتنوا فجأة، هو الزِّئبق، هو الزِّئبق، فما بالها لم تضبط معي إذًا؟!
مرَّت السَّاعات عليه في جلسته متململاً، من العصر حتى الغروب، ولم يسأله أحد أبدًا عنها، ولم يساومه في ثمنها رجلٌ، لقد بارت السلعة فجأة، مثلما راجت فجأة!
أفقتم جميعًا الآن؟!
أما كان منكم رجل يزاحمني في شرائها؟!
ساعات صعبة، كتلك التي مرَّت عليه في الشَّقَّة منتظرًا جنيًّا شبِقًا للزئبق النَّفيس، يختلط عليه الشعور بالصَّدمة من نفسه، والجزع على المال الذي ضاع، والرغبة في أن يظلَّ متلذِّذًا بالحلم، مع شعور أقل حدَّةً بعذاب الضمير؛ فقد جاء ليغشَّ، ولأول مرَّة ينتوي الغشَّ في حياته، جاء ليرمي بلواه على غيره، فوق كلِّ هذه العذابات، كان المارَّة يضعون الملح على جرحه، ويتعرضون إليه في جلسته المكشوفة المقروءة من الكلِّ بنظرات شماتة وتفكُّه، وباللمز الجارح:
- ذهبت الطُّيور بأرزاقها.
- ذاك صاعد للحجِّ بعد أن عاد الحجيج.
فاض به الكيل، وذابت دموعه، أوشك على أن يقوم، ويصرف نظرًا عن بيعها، ويرميها في الطَّريق، وما أن وضع كفَّه على الأرض يستند عليها، حتى شعر بخدر في جسده، وبهواء دافئ قد نُفِخ في صدره، مع هبَّة الغبار في الجوِّ العبوس، وعلى أنغام طرقات رجل يقوِّم الصُّحون النُّحاسيَّة في طرف السُّوق، وفي نعاس الضَّوء الأصفر الشَّاحب الذي يتسلَّل إليه في زاويته، ويغمر وجهه، ويغمر الأسد الرَّابض على آلة الخياطة رمزًا لها، حتى ألمَّ به دوار خفيف، فرفع كفَّه من على الأرض، وتثاءب تثاؤبًا طويلاً، وابتسم حتى تقوَّس فمه تقوُّسًا ساذجًا، وسيَّارة فارهة تقف أمامه وقد أضاءت وجهه بمصابيحها القويَّة، يضع كفَّه على عينيه، وقد زادت ابتسامته كمن يُداعَب بالضَّوء، تنطفئ المصابيح، ويترجَّل من السيَّارة رجل أنيق بكلِّ تؤدة واعتزاز، وقد سبقه عطره، ولولا اختلاف اللِّباس والسِّن، لظنَّ أنه النِّطاسيُّ نفسه الذي جاء على ظهر بغلة، أو واحد من ذرِّيته، ترجَّل وعلى وجهه لهفة نمر لصيد عزيز قابع أمامه، وتحفُّز رهيب، مع تصنُّعٍ للامبالاة، كما يفعل المشتري المخضرم؛ حتى لا يطمع فيه البائع.
اقترب وجلس، ونظر إلى الآلة بعناية، ومرَّر الجوَّال من أمام الإبرة، وصاحبنا البائع ينظر إليه ببرود، ويمثِّل أيضًا عدم الاهتمام؛ حتى يمكنه أن يعزَّ سلعته.
يضع الرَّجل الأنيق يده على كتف البائع: أنا عارف ما أريد شراءه، وأنت أيضًا تعرف ما تتمنَّى بيعه؛ لذا آتيك من آخر، فأنا لا أحبُّ السَّوم، أُمهِرُ هذه العروس التي بجانبك عشرين ألفًا مهرًا.
- ها؟! ها؟!
- أشتريها منك بعشرين ألفًا.
يتنفس نفس المتعجِّب: أواثق أنت من أنك ستفيد بها حقًّا؟ أواثق حقًّا؟ فالبعض، فالبعض اشترى مثلها ولم تأته العفاريت!
لم يردَّ عليه الرَّجل، بل اتَّصل بآخر: يا شيخ، أبشرْ، وجدنا العروس، نعم نعم، بِكْر، بلِّغ سلامي للمارد العجوز، وقل له: لا هُنْتَ، في منتصف اللَّيل تُسقَى من ماء الحياة، وتستعيد شبابك.
ينهي المكالمة وعلى وجهه ابتسامة منتصر، وعيناه بهما لمعة اطمئنان وسنان.
يعيد عليه السُّؤال، وهو يعضُّ على شفته، ويهزُّ وجهه هزَّة عصبيَّة: أواثق أنت من أنكَ ستفيد بها حقًّا؟
يضحك الرَّجل: وهل ظننت أني أشتريها منك بهذا الثَّمن لخياطة الأثواب؟!
يسكت وقتًا طويلاً، ثم يأخذ نفسًا عميقًا، ثم يبكي بكاء الفَرِحين: وأنا، وأنا أقول لكَ، وبأعلى صوتي: أنا أولَى بها، نعم، أولَى بها، فلا مكائن عندي للبيع، اعذرني أخي.
يغضب عليه الرَّجل: أمزاح أطفال هذا؟! وما جاء بكَ إلى هنا؟! أتلعب بالنَّاس وتؤمِّلهم ثم تمشي؟! أعطنيها وخُذِ المال.
- أبدًا، أبدًا.
- يا رجل، خذ خمسين ألفًا إذًا.
- ولا مليون، ولا مليون، ولا مليون (بأعلى صوته)، اذهبْ أنت وشيخكَ، أنا أسقي المارد اللَّيلة بنفسي.
واختطف آلته من الأرض خطفًا، والرَّجل يتعلَّق بثيابه، يمسكه من كتفه.
تطاير الشَّرر من عينيه، وأطاح بيد الرَّجل: انزع يدكَ عني؛ هذه سعدي أنا، أنا.
فتح السَّيارة ورماها على المقعد بجانبه، وقفز فيها، وحلَّ (الشِّماغ) عن وجهه، وابتسم وانطلق، ينظر في مرآة الخلف شامتًا للمشتري الذي كان يضرب الأرض برجله؛ غضبًا على ما فلت منه من نعمة.
فيما كان جرو أسود يطارد السيارة وينبح عليها، وجمهرة من رواد السُّوق والباعة يضربون كفًّا بكفٍّ، هذا الآدمي الغريب الكئيب، دخل السُّوق بسلعة واحدة آلة خياطة، وجلس حزينًا طيلة الوقت لا يكلِّم أحدًا، ولم يقربه أحد، حتى أصابته لوثة فجأة، فأخذ يكلِّم نفسه صائحًا، ثمَّ انطلق بسيارته حاملاً سلعته الرَّاكدة.
ــــــــــــــــــــ
[1] النطاسي: العالم الماهر.
[2] تهملج: تسير سيرًا حسنًا في سرعة.
[3] الأبيات من كتاب "فردوس الحكمة في علم الكيمياء"، لخالد بن يزيد بن معاوية.
[4] الحراج: السُّوق الشعبي.
[5] ارجحنَّ: ثقل ومال واهتزَّ.
[6] التهاويل: ما على الهوادج من الصُّوف الملوَّن.
[7] الدلْس: الخديعة.
يَا طَالِبًا بوريطش الحُكَمَاءِ عِ مَنْطِقًا حَقًّا بِغَيْرِ خَفَاءِ
هُوَ زِيبَقُ الشَّرْقِ الَّذِي هَتَفُوا بِهِ فِي كُتْبِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الأَشْيَاءِ
سَمَّوْهُ زَهْرًا فِي خَفِيِّ رُمُوزِهِمْ وَالخُرْ شُقُلا أَغْمَض الأَسْمَاءِ
- زيبق الشَّرق؟! (يردُّ على النِّطاسيِّ الذي أتاه بعين يملؤها الوله والشَّوق)، زدني، زدني.
فتح النِّطاسيُّ السِّفْر المغلَّف بجلد الغزال، وأخذ يقلِّب في صفحاته بعين خبير منهمك، وهو يقرأ سرًّا، ويزوم بأصوات عجماء من أنفه، بأصابع قد تختَّمت بخواتم ضخمة من الفيروز واليَشْب، يلعب في لحيته البيضاء المرسلة على الصَّفحات، حتى توقَّف عند صفحة ما، وأخذ يدقُّ عليها بظهر كفِّه، وأشار له ليقوم؛ ليريه سرًّا من أسرار الحكمة (هو زيبق الشرق الذي هتفوا به في كتبهم).
هيَّا قُمْ، هذا وعدك، فهذا الذي كان سرَّ عادٍ الأولى.
هَمَّ أن يقوم له متحرِّقًا، استند بكفَّيه على التراب، غير أنه تبلبل بريح أثارتْ غبرًا، وهزَّت مصابيح الإضاءة، ضيَّق حدقتيه، استفاق من نداء النِّطاسيِّ، النِّطاسيُّ غمَّته زوبعة، أخذ يضمحلُّ فيها حتى اختفى، وقد ماعتْ كلماته شيئًا فشيئًا، حتى ذابت في عزيف الرِّيح.
ما عاد أحد أمامه غير واقعه المرير، وخَيبته، والمارُّون في ساحة (الحراج)[4]، فيلتفتُ لها ببطء وهو يتمنَّى لو كانت حلمًا ووهمًا، غير أنه وجدها بجانبه: آلة (سنجر) عتيقة للخياطة، وجرو أسود فضوليٌّ يتفحَّصها ويتشمَّمها، زجر الكلب حتى ابتعد، أطرق للأرض مخزيًّا من حاله وأوهامه.
كم من سنين مرَّت عليَّ هنا زائرًا كريمًا؟ منذ أن جئت أوَّل مرَّة في طفولتي، أهكذا النِّهاية؟ أهكذا النِّهاية يا حراج (بن قاسم)؟! أفترشُ الأرض ومعي آلة خياطة، أودُّ بيعها بأيِّ وسيلة حتى أستردَّ مالي؟!
أخذ يتذكَّر الأيَّام البعيدة له هنا، للصَّبيِّ الذي كان يأتي مع أبيه، ثم ينسلُّ منه بلطف، ويذهب إلى بُسُط النُّحاسيَّات والأباريق والقماقم، مشدودًا إليها، ويحكُّ في المعروضات التي تثير انتباهه، لم يخرج له المارد من القمقم أبدًا؛ ليكافئه على أنْ فكَّ أسره الذي طال من عهد النَّبيِّ سليمان - عليه السَّلام - وقد كان يحلم بالتُّحَف، والطَّيِّبات، والطَّعام الشَّهيِّ، والثِّياب النَّاعمة، وأسفار بعيدة على بساط الرِّيح.
اليوم ها هنا يجلس ذاك الطفل الخياليُّ رجلاً يرتدى ثوبًا سَمَلاً، و(شماغًا) وسِخًا، يداري به نصف وجهه، وقد غيَّر ملامحه بشيء من الحيلة، وارتدى نظَّارة سوداء كبيرة، بدَّل هيئته قدر المستطاع؛ حتى لا يتعرَّف عليه أحد من روَّاد (الحراج)، وقد جاء بائعًا هذه المرَّة.
منذ ثلاثة أيام فقط كان هنا، في حال غير الحال، وفي ثوب غير الثَّوب، يحدوه الأمل، في تلك النَّاحية هناك، وقف ينافس المساومين ويزيد عليهم، حتى اقتنص كنزه بكلِّ ما يملك من مدَّخرات.
(عليَّ بخمسةَ عشرَ ألفًا، ومالي معي)؛ قالها بعد أن مرَّر الجوَّال من أمام إبرة آلة الخياطة، فانقطع الإرسال، وكاد أن يتوقَّف قلبه من الفرحة العارمة.
(حلالك)؛ قالها البائع، فقدَّم له صاحبنا المال، ثم حمل آلته ومضى وهو لا ينظر خلفه، وقد كان خلفه عيون تحقد عليه، على ذلك الذي اختطف الحلم دون الآخرين.
والجنيُّ حتمًا يأتيكَ مضطرب المِشفر، يتوسَّل إليك؛ كي يأخذ قطرة من إكسير الحياة الذي في المِخيَط: الزِّئبق الأحمر! في حجرتكَ المظلمة عليكَ أن تنتظره، يأتيكَ في آية من الدُّخَان والهيبة والأطيط، وأنفاسه تسبقه، أنفاسه التي تسبقه ستهزُّ الفانوس الأحمر المُضاء في أوَّل الرواق، سيرتجف له جسدك، وتعاني قليلاً من وطأة حضوره الشعشاع الرَّهيب، ثم يظهر بدن عظيم سمين، وقد ارجحنَّ[5] في مشيه إليك كما يرجحنُّ الدُّبُّ في سيره منتصبًا على اثنتين، إن جاءك فلا تخافه، اثبتْ في مكانك بلا وجل، وأعطِه بقَدَر، وإن استزادك فلا تزده؛ حتى يظلَّ رهينًا لكَ، عبدًا مِنقبًا يفتِّح الكنوز التي قامت عليها الجنُّ رَصَدًا، ويلقيها صاغرًا بين قدميك، وغوَّاصًا يريك عجبًا من قِيعَة الأبحُر، وجوَّابًا يُطرِفك بخبايا الجُزُر النائية، ويطير إلى القرون مما كان قبلك، فصدِّق أو لا تصدِّق، في الماضي سيلاحقُ - عفوًا - لاحقَ قافلة للسُّلطان يغمرها البدر في ليل الصَّحراء، خطف من فِضَّة الجواري المكنوزة خلف الصُّوف التَّهاويل[6]، ثمَّ أتاك في زمن الحديد.
أضاء الفانوس الأحمر الصغير في أول الرواق، وأطفأ نور الحجرة وانتظر، مرَّ به الوقت ولم يتجلَّ له شيء، أخذ يتمتم طويلاً حتى كاد أن يهذي، والفانوس ساكن هناك، لم يهتزَّ من أنفاس الجنيِّ القادم، ولم يشعر على رأسه بوطأة الحضور إلاَّ وهمًا قليلاً، مع كلِّ قطرة ماء تنزل في الحوض تكسر السُّكون، كان قلبه يرجف؛ أملاً في الحضور، هذا هو! أبدًا أبدًا، تلك قطرة ماء، ومع جويل الرِّيح بالأوراق في الشُّرفة، ومن صرير الباب المفتوح، أهو؟! كلاَّ كلاَّ، لا تتعجَّل، ودعا الجن بالعزائم الشِّداد، وقد انتفخ ودجاه، واحمرَّ وجهه، وانتظر، وندب الروحانيَّ يتلوان سويًّا، وانتظر، لم تتشمَّم الجنُّ بخراطيمها رائحة الزِّئبق حتى مطلع الفجر، ولم تهزَّ الفانوس بأنفاسها أبدًا!
حاول مرَّة وأخرى، ثم حاول في اللَّيلة الثانية، حتى يئِس، وأشعل النُّور، وحطَّم الفانوس، ولم ينم، كانت تلك كذلك ليلة سوداء.
في اليوم التالي بوقت العصر، أخذ بَلْوَاهُ السَّوداء في السيَّارة، وجاء اليوم يبيعها في نفس (الحراج) الذي تخطَّفها منه، يجلس خزيانَ حزينًا على نفسه، يرى الموات في كلِّ شيء، والحزن والغبار في وجه السَّماء، ووجوهُ البشر كالحة، وأصواتهم يأس، وسيرهم كَسَل، وفي أنفه رائحة كرائحة الخبز المتخمِّر، وفي عينيه دمعة متحجِّرة.
ويلي! خُدِعت فيها شرَّ خِدعة، وها قد جئت اليوم، أبيع على خلق الله بيع الدَّلْس[7]، أنتظرُ غفلاً، فيحمل عني أحلامي السَّاذجة، ويردُّ لي مالي، لكن، أنا لا أصدِّق أني عشت وهمًا وأُكذوبة غبيَّة، كثير من النَّاس اغتنوا فجأة، هو الزِّئبق، هو الزِّئبق، فما بالها لم تضبط معي إذًا؟!
مرَّت السَّاعات عليه في جلسته متململاً، من العصر حتى الغروب، ولم يسأله أحد أبدًا عنها، ولم يساومه في ثمنها رجلٌ، لقد بارت السلعة فجأة، مثلما راجت فجأة!
أفقتم جميعًا الآن؟!
أما كان منكم رجل يزاحمني في شرائها؟!
ساعات صعبة، كتلك التي مرَّت عليه في الشَّقَّة منتظرًا جنيًّا شبِقًا للزئبق النَّفيس، يختلط عليه الشعور بالصَّدمة من نفسه، والجزع على المال الذي ضاع، والرغبة في أن يظلَّ متلذِّذًا بالحلم، مع شعور أقل حدَّةً بعذاب الضمير؛ فقد جاء ليغشَّ، ولأول مرَّة ينتوي الغشَّ في حياته، جاء ليرمي بلواه على غيره، فوق كلِّ هذه العذابات، كان المارَّة يضعون الملح على جرحه، ويتعرضون إليه في جلسته المكشوفة المقروءة من الكلِّ بنظرات شماتة وتفكُّه، وباللمز الجارح:
- ذهبت الطُّيور بأرزاقها.
- ذاك صاعد للحجِّ بعد أن عاد الحجيج.
فاض به الكيل، وذابت دموعه، أوشك على أن يقوم، ويصرف نظرًا عن بيعها، ويرميها في الطَّريق، وما أن وضع كفَّه على الأرض يستند عليها، حتى شعر بخدر في جسده، وبهواء دافئ قد نُفِخ في صدره، مع هبَّة الغبار في الجوِّ العبوس، وعلى أنغام طرقات رجل يقوِّم الصُّحون النُّحاسيَّة في طرف السُّوق، وفي نعاس الضَّوء الأصفر الشَّاحب الذي يتسلَّل إليه في زاويته، ويغمر وجهه، ويغمر الأسد الرَّابض على آلة الخياطة رمزًا لها، حتى ألمَّ به دوار خفيف، فرفع كفَّه من على الأرض، وتثاءب تثاؤبًا طويلاً، وابتسم حتى تقوَّس فمه تقوُّسًا ساذجًا، وسيَّارة فارهة تقف أمامه وقد أضاءت وجهه بمصابيحها القويَّة، يضع كفَّه على عينيه، وقد زادت ابتسامته كمن يُداعَب بالضَّوء، تنطفئ المصابيح، ويترجَّل من السيَّارة رجل أنيق بكلِّ تؤدة واعتزاز، وقد سبقه عطره، ولولا اختلاف اللِّباس والسِّن، لظنَّ أنه النِّطاسيُّ نفسه الذي جاء على ظهر بغلة، أو واحد من ذرِّيته، ترجَّل وعلى وجهه لهفة نمر لصيد عزيز قابع أمامه، وتحفُّز رهيب، مع تصنُّعٍ للامبالاة، كما يفعل المشتري المخضرم؛ حتى لا يطمع فيه البائع.
اقترب وجلس، ونظر إلى الآلة بعناية، ومرَّر الجوَّال من أمام الإبرة، وصاحبنا البائع ينظر إليه ببرود، ويمثِّل أيضًا عدم الاهتمام؛ حتى يمكنه أن يعزَّ سلعته.
يضع الرَّجل الأنيق يده على كتف البائع: أنا عارف ما أريد شراءه، وأنت أيضًا تعرف ما تتمنَّى بيعه؛ لذا آتيك من آخر، فأنا لا أحبُّ السَّوم، أُمهِرُ هذه العروس التي بجانبك عشرين ألفًا مهرًا.
- ها؟! ها؟!
- أشتريها منك بعشرين ألفًا.
يتنفس نفس المتعجِّب: أواثق أنت من أنك ستفيد بها حقًّا؟ أواثق حقًّا؟ فالبعض، فالبعض اشترى مثلها ولم تأته العفاريت!
لم يردَّ عليه الرَّجل، بل اتَّصل بآخر: يا شيخ، أبشرْ، وجدنا العروس، نعم نعم، بِكْر، بلِّغ سلامي للمارد العجوز، وقل له: لا هُنْتَ، في منتصف اللَّيل تُسقَى من ماء الحياة، وتستعيد شبابك.
ينهي المكالمة وعلى وجهه ابتسامة منتصر، وعيناه بهما لمعة اطمئنان وسنان.
يعيد عليه السُّؤال، وهو يعضُّ على شفته، ويهزُّ وجهه هزَّة عصبيَّة: أواثق أنت من أنكَ ستفيد بها حقًّا؟
يضحك الرَّجل: وهل ظننت أني أشتريها منك بهذا الثَّمن لخياطة الأثواب؟!
يسكت وقتًا طويلاً، ثم يأخذ نفسًا عميقًا، ثم يبكي بكاء الفَرِحين: وأنا، وأنا أقول لكَ، وبأعلى صوتي: أنا أولَى بها، نعم، أولَى بها، فلا مكائن عندي للبيع، اعذرني أخي.
يغضب عليه الرَّجل: أمزاح أطفال هذا؟! وما جاء بكَ إلى هنا؟! أتلعب بالنَّاس وتؤمِّلهم ثم تمشي؟! أعطنيها وخُذِ المال.
- أبدًا، أبدًا.
- يا رجل، خذ خمسين ألفًا إذًا.
- ولا مليون، ولا مليون، ولا مليون (بأعلى صوته)، اذهبْ أنت وشيخكَ، أنا أسقي المارد اللَّيلة بنفسي.
واختطف آلته من الأرض خطفًا، والرَّجل يتعلَّق بثيابه، يمسكه من كتفه.
تطاير الشَّرر من عينيه، وأطاح بيد الرَّجل: انزع يدكَ عني؛ هذه سعدي أنا، أنا.
فتح السَّيارة ورماها على المقعد بجانبه، وقفز فيها، وحلَّ (الشِّماغ) عن وجهه، وابتسم وانطلق، ينظر في مرآة الخلف شامتًا للمشتري الذي كان يضرب الأرض برجله؛ غضبًا على ما فلت منه من نعمة.
فيما كان جرو أسود يطارد السيارة وينبح عليها، وجمهرة من رواد السُّوق والباعة يضربون كفًّا بكفٍّ، هذا الآدمي الغريب الكئيب، دخل السُّوق بسلعة واحدة آلة خياطة، وجلس حزينًا طيلة الوقت لا يكلِّم أحدًا، ولم يقربه أحد، حتى أصابته لوثة فجأة، فأخذ يكلِّم نفسه صائحًا، ثمَّ انطلق بسيارته حاملاً سلعته الرَّاكدة.
ــــــــــــــــــــ
[1] النطاسي: العالم الماهر.
[2] تهملج: تسير سيرًا حسنًا في سرعة.
[3] الأبيات من كتاب "فردوس الحكمة في علم الكيمياء"، لخالد بن يزيد بن معاوية.
[4] الحراج: السُّوق الشعبي.
[5] ارجحنَّ: ثقل ومال واهتزَّ.
[6] التهاويل: ما على الهوادج من الصُّوف الملوَّن.
[7] الدلْس: الخديعة.