المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسيخ البَخور



محمود توفيق
April 2nd, 2009, 21:05
آهٍ.. آهٍ.. جسدي مُضَعْضَعٌ كأنِّي رقدتُّ على الأرضِ بعد معركةٍ عنيفةٍ انهدَّتْ فيها قُواي، مُنبطِحٌ، لا أفكِّرُ في التقلُّبِ الآن، أيّ تقلُّب؟! أشعُرُ بأنِّي أستعذِبُ انبطاحي وأستريحُ فيه، ولن تستيقظ آلامي إلاَّ إذا ما حاولتُ أن أعتدِلَ، فلا اعتدلتُ.

والماضي ضبابٌ سرمديٌّ طويلٌّ، ولا أعرِف أوَّله ولا متى وَلَجتُ فيه؛ ولا آخر له، يتمدَّدُ، هو غَيْبٌ وأنا غَيْبوبةٌ. وذاكرتي معطَّلةٌ، لم يبقَ بها شيء يسبق هذا الانبطاحَ هنا في هذا الضِّيقِ العجيبِ الذي اعتدتُّهُ، حفرةٌ، أنا وهي لا يعرِفُ أيّ مِنَّا إلاَّ الآخر، ولا يعرِف فِكاكاً منه. تورَّطنا سويًا، غير أنِّي وحدي أدرك الورطة، ولديَّ فضولٌ لأعرِفَ كيف جِئتُ إلى هنا، (هنا) الغَيابة البعيدة، فضولٌ أغالبُه وأتغابَى عنه؛ لأنِّي لا أعرِف كيف أعرِف سرَّ انغراسي هنا.
هنا مثوايَ العجيبُ الذي يضمُّني، المظلمُ الرَّطْبُ، الذي اعتدتُّ رِيحَهُ وهواءه، واعتدتُّ هَدْأته، أقضي وقتًا في تلمُّسِ جُدُرِه في نشاطي ووَهْني، و يَقَظتي ونَوْمي، وفي الرِّضا والسَّخَط.

أُوشوِشُ الذَّاكرةَ، أهُزُّ عُودَها، ولا فائدة، أُعاودُ الكَرَّةَ، فأذَّكَّرُ بصُعوبةٍ، أنِّي كنتُ رافضًا وحَرُونًا يستوخِمُ المثوى، أُحاوِلُ أن أتمرَّدَ على هذا الضِّيقِ وأنتهكَه، أنقِّبَ فيه، أنهشَهُ، ألتهمَهُ. أمَّا هو، فكان مكينًا، هادئًا، مُسَيطراً، فلم ألمِسْ فيهِ ضَعفًا فيتزعزَع، ولا نَزَقًا فيطردني، قَدَرَ عليَّ واحتواني تمامًا!

بعدها، وشيئًا فشيئًا، أنَفَةٌ تليها أُلْفةٌ، اعتدتُّ الحفرةَ، والظُّلْمةَ، والانطراحَ فيها للأبد. وتحوَّلتُ من بعد ضَجري إلى راضٍ بالبقاءِ، مُتلذِّذًا بالدَّعَةِ والكسلِ وقِلَّةِ الحركةِ، فلا أنا أطلبُ شيئًا، ولا أنا أتحاشَى شيئًا. والوقتُ لا يعنيني، وماذا أعمَلُ بهِ! وزاهدٌ في الخروجِ، بل وخائفٌ منه؛ فمن يضمَنُ لي ألاَّ يقتلَني مَن سيحاوِل أن ينتشِلَني منها دونما قَصْدٍ، أو يخلَعَ ذراعيَ في يدِه الممتدَّةِ إليَّ في الظَّلامِ العتيقِ؟ حتى أنَّني كثيرًا ما تخيَّلتُ تلك اللَّحظةَ المرهبةَ: دبيبُ يدٍ صلبةٍ تحفرُ بهدوءٍ وعنايةٍٍ، تتوغَّلُ.. تتوغَّلُ.. تتوغَّلُ، حتى وصَلَتْ، وقليلٌ من الضَّوْء يتسلَّلُ إليَّ في وَكْري، فالتصقتُ بالجدرانِ كاتمًا أنفاسيَ أشفُطُ بطني، كأنَّه تمرُّ من أمامي يدُ وحْشٍ تعبثُ وتفتِّشُ في جَوْفِ الوَكْرِ الذي أختبئُ فيه، أراها و لا تراني.

هذا الخوفُ، الذي يجعلُني متشبِّثًا بالثَّباتِ والبقاءِ، أمَّا الأمنياتُ، التي تلعبُ بي في بعضِ الأوقاتِ، وتسحبُني بعيدًا،كقَصبةٍ تجري مع التَّيارِ، فلها نصيبُها أيضًا؛ فلستُ دائمًا جَفِلاً من خروجٍ؛ أهدأُ، أتكوَّرُ، أسترِقُ السَّمعَ في غِبطة؛ يسيلُ لعابي في الظُّلْمةِ وأنا أتسمَّعُ للأصواتِ المُبهِجةِ، أصواتِ أهلِ الحراكِ الذين ينتشرونَ بالخارجِ، ولا يعرفونَ الانبطاحَ الذي أنا فيه ولا الصَّمتَ الطَّويلَ: ترحيبٌ، سلاماتٌ، أبواقُ سيَّاراتٍ، وباعةٌ جائلونَ، وزخَّاتُ مطرٍ، وساعي بريدٍ، وشِجارٌ وزقزقةُ عصافير. كلُّ هذا ليس بعيدًا، إنَّما قريبٌ حَوْلي. وأنا - يا هؤلاء - حيٌّ يشعُرُ بالغَيرةِ، ويتحسَّرُ على حالِهِ إذا ما تحرَّقَ للنَّعيم الذي حُرِم منه و يرفُلُ فيهِ الآخرون؛ فارحموني، واخفضوا أصواتكم النَّشوَى، وابتعدوا قليلاً بالثَّرثرةِ العذبةِ. أنا من لحمٍ و دمٍ، أوَدُّ أن أناديَ وأملأَ الدُّنيا ضجيجًا مثلكم أيُّها الأحرار. ها هي الأمنيَّاتُ تنتشلُني وتنبُذني في الخلاءِ أخيرًا سعيدًا واهنًا، فأقومُ وأقعُ، وأقومُ وأقعُ، حتى أثبُتَ في الثَّالثةِ. و أمُرُّ على جسرٍ خشبيٍّ فوقَ جدولِ ماءٍ، جسرٍ معلَّقٍ بالحبالِ، وأنا أُؤنس نفسي بصوتٍ أليفٍ كنَوْحِ الحمامِ، والجسرُ يتأرجحُ تحتي؛ أمُرُّ بخطوةٍ حذرةٍ بريئةٍ، كخَطْو الحمامِ، فلمَّا جاوزْتُ، رميْتُ كلَّ الخوفِ عن ظهري، لمَّا صارَ جسرُ الخوفِ في ظهري؛ فأجري، ثمَّ أجري، ثمَّ أجري، حتى غابةٍ، وهناك، أتسلَّقُ بلُّوطةً عجوزًا، وأنزِلُ، وأقطِفُ الزَّنابقَ الرَّقيقةَ، وأنثرها، وأجري مطاردًا فراشةً مرحةً، ثم أستلقي ناشرًا أطرافي على العُشْبِ النَّديِّ وقَدِ امتلأتْ عينايَ من سَعَةِ الوجودِ والدَّهشةِ وبهجةِ الألوان، أملكُ كلَّ شيءٍ، ولا أملكُ أيَّ شيءٍ، تلكَ حياةٌ طيِّبةٌ!.. وبيني وبين كلِّ هذا أن أخرجَ من هنا، تعالي، أيتها اليدُ التي انتظرها احمليني من هنا، تعالي، تعالي.. تعالي... تعالي (أخذ يردِّدها حتى نام.. نام كثيرًا.. وبعد مدَّةٍ، أخذ يتقلَّبُ، ويَزْفِرُ، ثمَّ استيقظَ عبوسًا نَكِدَ المزاجِ).

لستُ دائمًا جَفِلاً من خروجٍ، ولستُ دائمًا أغارُ من المنطلقينَ بالخارجِ، الأمرُ أحيانًا فوق الخوفِ من الخروجِ، وأهمُّ من أمنياتي، فللسَّخَطِ نصيبُهُ أيضًا، نعم، السَّخَطُ العظيمُ! الحفرةُ التي مثلَ كهفٍ رطبٍ، تتسرَّبُ إليه مياهِ الأرضِ والسُّيولِ، وأتلبَّطُ في وحلِها، إذا بها فجأةً تجِفُّ في ثوانٍ معدودةٍ في مشهدٍ رهيبٍ، تتشرَّبُ الحرارةُ رطوبتَها، حتى تتفخَّرَ، وتتشقَّقَ أرضها وجدرانها؛ هنا حيث يمكنني دائمًا أن أسمَعَ شيئًا مثل وشيشِ البحرِ كالذي تسمعُهُ من قوقعةٍ خرجتْ لِتوِّها من ماءِ البحرِ، هنا يمضُغني الجفافُ، فأشعرُ لأديمِها وجدرانها المتقشِّفةِ خشونةً في لحمي العاري، ويمرُّ الخَبَثُ من كلِّ شُقوقِها، أدخنةٌ بغيضةٌ، مَوْجاتٌ، بل غاراتٌ. مَن يشعلُ النَّارَ قريبًا من هنا؟
هذا بَخورُ الشَّياطينِ بين يَديها والمجمَرةُ، هي السَّيدةُ ولا غير.
ها هي الأدخنةُ قدْ جاءتْ من الدُّنيا الواسعةِ تقتحِمُ عليَّ.. (يسعلُ بشدَّةٍ).

آهٍ.. آهٍ.. آهٍ.
جاءتْ على الذِّكْرِ!

تسلَّلتْ إليَّ مرَّةً أخرى، ولكن كأنَّها المرَّةُ الأولى، ما اعتدتُّ عليها حتى الآن، في كلِّ مرَّةٍ كأنَّها مفاجِئَةٌ صاعقةٌ لم أحسبْ حسابها، كأنِّي أُغزَى من جارٍ، كأني أُطعنُ من رفيقٍ.

آهٍ.. آهٍ.
أتعذَّبُ، أتعذَّبُ، أتعذَّبُ.

وأعْجَبُ من غبائي؛ فأنا الذي أخلَدَ إلى الحفرةِ ورضيَ بها، وأنا الذي أخدعُ نفسي عندما أتخيَّلُ أنَّ هذه الغاراتِ لن تتجدَّدَ بعد كلِّ مرَّةٍ تنتهي فيها. وأجدني مضعضعاً منبطحاً معتاداً على المكوث هنا. يقول عن كل مرَّة: لعلها المرَّةُ الأخيرةُ... ويبدو أنَّه لا آخر لها أبدًا.

آهٍ.. آهٍ.. عذابٌ ما بعده عذابٌ.
أُشْوَى على نارٍ هادئةٍ، ها هي الأحداثُ المخيفةُ بدأتْ. يا وَيلي!.

( يجفُّ البلَلُ حوله، تتبقَّى الرُّطوبةُ، ثم سرعان ما تتبخَّرُ، يتقشَّفُ الأديمُ، يتشقَّقُ، يغبرُّ، يتصحَّرُ، يسخنُ. تهبُّ ريحٌ سَمومٌ، لها عزيفٌ مخيفٌ. تنبعِثُ الأدخنةُ، كريهةً، مقبضةً، خانقةً، شرِّيرةً؛ تتَّخذُ شكلَ أغلالٍ وتطوِّقُ عنقَهُ ورُسْغَيهِ وكاحِلَيهِ، و هيئةَ وزغٍ، وهوامٍّ، وعناكبَ تزحفُ من السرَّةِ إلى حلْقِه.

يفزعُ، تخرُجُ أنفاسُهُ متسارعةً متقطِّعةً، يرتكنُ إلى الجدرانِ، هاربًا من الكائناتِ الخرافيَّةِ والأغلالِ، تشهقُ الجدرانُ المتشقِّقةُ، وتتمدَّدُ فيها شُقوقٌ وأشياءُ كالشُّعَيراتِ وكأنَّ فيها حياةً؛ إنَّها تنبضُ! كأنَّها أنفُ وَحْشٍ عملاقٍ قد انكفأ عليه يتشمَّمُ فيه؛ تشفطُه إليها، يصرخُ، يحاولُ أن ينفكَّ عنها ولا يقدِر، يبكي مرعوبًا، ولعابه يسيلُ من فيهِ، يزرقُّ وجهُهُ، يشعرُ بسخونةٍ في ساقيه وظهره كأنَّه على رمالٍ ساخنةٍ، يسعلُ، تهتزُّ رأسه يمنةً ويسرةً كفاقدِ الوعيِ، وصدرُه مِثلُ طبلةٍ من نَقرةِ السُّعالِ الرَّهيبِ.

بعد دقائق طالت كأنَّها شهورٌ، تهربُ فلولُ الأدخنةِ، كجنِّيٍّ ينصرِفُ، يسكنُ رأسُه المهتزُّ، ينخفِض صوتُ سُعاله شيئًا فشيئًا، يبرُدُ جسمُه دقيقةً وراء أخرى، يستعيدُ لونَهُ الطَّبيعيَّ درجةً بعد درجةٍ، يمسحُ زَبَدًا عن فمه في إعياءٍ بالغٍ، و يمسحُ دمْعهُ في مسكنةٍ. كانَ أنفُ الوَحْشِ الحسَّاسُ المضطربُ قد سكنَ، سكنَتِ الجدرانُ القلِقةُ؛ والكائناتُ الخرافيَّةُ لملمتْ بعضها بعضًا وانصرفتْ في هدوءٍ، كما تنسحبُ كائناتُ الأحلامِ مع تباشيرِ اليقظةِ. ثم ظهرتْ فقاقيعُ رحيمةٌ في كلِّ جانبٍ، وبدأتِ الأرضُ والجدرانُ تَرْشَحُ ماءً فاترًا، في قَطراتٍ كالدَّمعِ، ويَسمعُ للقَطراتِ المُنْسَالَةِ هَسهَسةً وهي تُطفِئ جَنباتِ الحفرةِ الرَّمضاء، حتى ذهبَ رِيح فرنِ الفخَّارِ عن الحافرةِ، وتلطَّفَ المناخُ تارةً أخرى. انتهتِ الغارةُ الغادرةُ، أخيرًا، غير أنَّه لم يشعرْ بالسَّعادةِ التي يشعرُ بها النَّاجُونَ).


لأني لم أنجُ.
أهذا الذي كنتُ أسمعهُ صوتُ صدري؟!
يا لبؤسي وهواني!

هذا الذي مررتُ به اليومَ لا يحُتمَلُ، الغارةُ ليست شيئًا يمرُّ من هنا و يرسِلُ الدُّخَانَ بالصُّدفةِ، عليَّ ألاَّ أخدعَ نفسي، هي تتعمَّدُ قتلي. واليوم قد فاضَ الكَيْلُ، وعليَّ أن أفرَّ من هنا حتى للموتِ نفسه، عليَّ أن أشقَّ طريقًا في التُّربةِ مثلما تفعلُ دودةٌ، حتى أخرجَ للصُّبحِ والهواءِ والأمنِ، للزَيْتونِ في فمِ الحمامةِ، عَلاَمَ أركنُ بين يدَيْ جلاَّدي منتظرًا أن يحنوَ عليَّ، علامَ؟!

تعالي انظري إليَّ.. أنا على وشكِ الموتِ هنا، أشعرُ أنِّي قريبًا سأضعُ خدِّي على الأرضِ شاهقًا شهقتي الأخيرةَ، ليكون هذا الجُحْرُ قبري لترتاحي.

ما لي بها؟!.. إنَّها لا تسمعني.. بدلاً من أن أفكِّرَ في مواجهتها عليَّ أن أواجهَ نفسي (يبكي مجدَّدًا مشفِقًا على حاله).. أنا الآن أهربُ من وجهِ الحقيقةِ التي أشعرُها، ولا أريدُ أن أراها. سأنطقُها.. سأكُفُّ عن الهروبِ.. كُفَّ عنِ الهروبِ.

قلْها.. قلِ الحقيقةَ.. أنت تعرفُ ماذا فعلتْ بك تلك الغارةُ الأخيرةُ، القشَّةُ التي قصمتِ الظَّهرَ، كان جلدُك - يا مسكين - يُدبغُ على مهلٍ، ولحمُكَ ينضجُ، حتى أتمَّتْ كلَّ شيءٍ منذ قليلٍ.

(يتردَّدُ. ينطقُ بخوفٍ وتلعثمٍ، وكأنَّ الكلماتِ وحدها هي التي ستحوِّلُ هواجسَه إلى حقيقةٍ).

بَخُورُ الشياطينِ.. بَخورُ الشياطينِ.. شَ. شَوْ.. شَوْ.. شوَّهني.. وشقَّ مني الشَّفةَ (يبكي ويصرخُ).
لا.. لا.. لا.

في هذه العتمةِ، حيث لا نور هنا ولا مرآة، و يدايَ مرهقتان لا أملكُ جهدًا لأرفعَهما لوجهي، لا أرى الحقيقةَ ولا أتحسَّسها. وأنا لا أريدُ أن أعرفَ؛ قلبي لن يتحمَّلَ تلك الصَّدمةَ : مسيخٌ مخيفٌ، بشفةٍ مشقوقةٍ، وغُدَّةٍ على الرَّقبةِ، يهربُ منه الأحرارُ الوِسَامُ المبتهجونَ لو رَأَوهُ، ولا ذنب له إن يَدْرُوا، لا ذنب له.

ها هي، صوتها يصلني، أسمعُها الآن، هي ومن معها، يضحكْنَ بالخارجِ، بعد أن أدَّينَ طقسَهنَّ المشؤومَ، وأشعلنَ البَخورَ، وأخذْنَ ينفثنَ فيه، تلك الجماعةُ السريَّةُ وقدَّاسها المجنونُ. تضحَكُ، ولا على بالها شيء، وأنا هنا في حزني فمن يبالي بي؟!

وأنا هنا والأصواتُ والعتمةُ والخيالُ، أتصوَّرُ ما لا أراه: هناك، عند المذبحِ، فرَّتِ الحمائمُ التي كانت تعشِّشُ عند السَّقفِ، هربتْ من كُوَّاتِ المعبدِ.. لم يبقَ سواهنَّ، والظِّلالُ والشُّموعُ المضاءةُ، ومجمرةُ البَخورِ، وضحكاتهن الخافتةُ، والخدَر، وتحتهنَّ جماجمُ الهالكينَ في القَبْوِ الرَّهيبِ.

فتحتْ بابًا، وقفتْ تودِّعُ صاحباتها، وارتدَّتْ. وهذا وقعُ خطواتها على الأرضيَّةِ الخشبيَّةِ، تدندِنُ بنعومةٍ وحنانٍ، صوتها الآسرُ كأنَّما يفوح عطرًا و يشعُّ ضوءاً، بدأ يدغدغُ قلبي، يضعُ المراهمَ على جروحي.

ويهدأ غضبي رغمًا عنِّي، وأنسى قليلاً. ويتبدَّلُ حالها في خيالي: تخلعُ بُرْنُسَهَا الأسودَ الذي كانت ترتديه عند المجمرةِ، وتتزيَّا بالحريرِ، وتبيضُّ أسنانها الصَّفراء، والشرُّ يغادر عينيها، وهذا الوجهُ المهيبُ شعَّتْ منه رقَّةٌ وطلاوةٌ.

أنتِ يا التي هناك، حيرتِني معكِ. دعيني أحبُّكِ، أو دعيني أكرهكِ.
كلاَّ، هذه المرَّةُ لن أسامحَ، علِّميني إذن كيف أتوقَّفُ عن حبِّكِ.. هل تدرين؟ بَخوركِ الشيطانيُّ شوَّهني، فأيّ شيءٍ أعظمُ كيدًا من السِّحرِ يربطني إليكِ وأنا الذي أقسَمَ أن ينشبَ أظافرَه في وجهِكِ لو يطالكِ؟

يا لهواني!
يا خجلي من نفسي!
يا للخيبة!
فرغم كلّ ما بي، إلاّ أنِّي، إلاّ أنِّي.... أُحبُّكِ.. للأسفِ! ولو أطالكِ، وضعتُ رأسي على صدركِ، ونمتُ.

(يحتجُّ على نفسه) دعْكَ من هذه العاطفةِ المجنونةِ، اهتمّ بنفسكَ.

متى أرتاحُ من هذا؟ متى أنفذُ مثل دودةٍ، وأخرجُ لوجهِ الأرضِ للأمنِ، للاستقلالِ، لحمامةٍ تبشِّرني، بزيتونِ السَّلامِ، زيتونِ السَّلام، السَّلام.. السَّلام.. السَّلام.. السَّلام.
(أخذ يردِّدها حتى نام، نام كثيرًا، نومَ المُرهَقِ، يومًا أو عدَّةَ أيَّامٍ، حتى ارتجَّ الجسدُ السَّاكنُ فجأةً، واستيقظَ من تلك الغفوةِ، على أعلى جلَبَةٍ، كشِجارٍ، وأبوابٍ تصفقُ، وكصوتِ اللَّطماتِ، وكوقعِ أقدام الهَرْولة، ودمدمةٍ ونداءٍ، واستنفارٍ مهيبٍ، وصراخُ المرأةِ على أعلى طبقةٍ، خليطٌ أفزعَه؛ ثمَّ كادت أن تندكَّ الحفرةُ، بمعاول تضرِبُ فوق رديمٍ، وكأنَّ المرأةَ قد وقعتْ في شَرَكٍ، كثيرون حاصروها، اجتمعوا عليها، ذعرَتْ، بكتْ، وانكمشَتْ تسمعُ وتطيعُ ).
أهكذا أنتِ ضعيفةٌ؟!
أين البَخورُ والمعبدُ والطُّقوسُ السِّريَّةُ والقُوَى؟!
إنها لن تسمعَكَ، فاهتمّ بنفسكَ.

(ينسى المرأةَ، ينسى العطفَ عليها والشَّماتةَ، ينشغِلُ بنفسِهِ، بالخوفِ، والأمنياتِ، والسَّخَطِ، وساعةِ الحقيقةِ المُرَّةِ، ووجهِ الأرضِ والصَّباحِ الذي لا زيتون فيه. يحاولُ أن يفلتَ مثلَ دودةٍ، أن يشقَّ طريقًا للنَّعمةِ الهرَبُ، كلَّما خرَقَ ناحيةً التأمتْ ودفعتهُ لمكانِه، يبحثُ عن صدعٍ، هنا، هنا، كلاَّ، بل هنا، أبدًا لا فوْت هنا ولا هنا، يفشلُ، يقبع مذعورًا، منتظرًا تلك اليدَ التي كان يتخيَّلها، ينتظرها مرعوبًا مستسلمًا، تتسارعُ دقَّاتُ قلبِه، وهو يسمعُ كدَويِّ قصفٍ بعيدٍ يصلُه، والحفرةُ حوله تتزلزلُ. غلبَهُ الدُّوَارُ، ولم يعدْ يعرفُ أعلى مِن أسفلَ، يتمسَّكُ بالجدران بمَشقَّةٍ وهو يغالبُ الإغماءةَ، يتكوَّرُ، يشفطُ بطنَه، لكنَّه يُدفعُ دفعًا؛ الجدرانُ التي كانت أحيانًا ما تشفطُه، تزفِرُ الآن، تطردُه، ترفسُه. ينفلِتُ، ينقلِبُ، وخيوطٌ تتمزَّقُ حوله؛ ينفجِرُ الماءُ، كأنَّه في مغطسٍ؛ ينفذُ من مثل غشاءٍ يتمزَّقُ، يلتفُّ، يُحشرِجُ، يشرِقُ؛ تلفظُهُ الحفرةُ، فاستهلَّ باكيًا شاكيًا، بصوتٍ واهنٍ يمزِّقُ القلوبَ، هزيلاً محمولاً من كاحلينِ، مولودًا مشوَّهًا، لأمٍّ مدخِّنةٍ، أدارتْ وجهها فَزَعًا وخِزيًا؛ وتمنَّتْ موتَهُ، و سرعان ما ماتَ كما تمنَّتْ).

الرائد7
April 7th, 2009, 17:02
السلام عليكم
كثيرا ما أشعر برغبة التواصل معكم أخي الفاضل..
ولكن سبل التواصل تحتاج تفرغا ذهنيا وهذا ما لا أملكه الآن..
أشعر بسعادة شديدة حينما تسطر حروفك هاهنا..
زدنا من هذه الأطايب التي تمزجها بنسمات الوفاء..
نحن بانتظارك دوما

محمود توفيق
April 12th, 2009, 11:09
السلام عليكم
كثيرا ما أشعر برغبة التواصل معكم أخي الفاضل..
ولكن سبل التواصل تحتاج تفرغا ذهنيا وهذا ما لا أملكه الآن..
أشعر بسعادة شديدة حينما تسطر حروفك هاهنا..
زدنا من هذه الأطايب التي تمزجها بنسمات الوفاء..
نحن بانتظارك دوما

وإنه لمن دواعي سعادتي ومن أسباب استبشاري أن أنال أستحسان رجل مثلك صاحب ذائقة
جعلنا الله متقاربين دومًا

أخوك محمود توفيق