المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حمزة بن عبد المطلب



المنتقد
February 14th, 2009, 23:32
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أسد الله و سيد الشهداء

كانت مكة تَغِط في نومها ، بعد يوم ملء بالسعي ، و بالكد ، و بالعبادة ، و باللهو..

و القرشيون يتقلبون في مضاجعهم هاجعين … غير واحد هناك يَتَجافى عن المضجع جَنبَاه ، يأوي إلى فراشه مبكراً ، و يستريح ساعات قليلة ، ثم ينهض في شوق عظيم ، لأنه مع الله على موعد ، فَيَعمَد إلى مصلاه في حجرته ، و يظل يناجي ربه و يدعوه .. و كلما استيقظت زوجته إلى أزيز صدره الضارع و ابتهالاته الحارَّة الملِحَّة ، و أخذتها الشفقة عليه ، و دعته أن يرفق بنفسه ، و يأخذ حظه من النوم - يجيبها و دموع عينيه تسابق كلماته صلى الله عليه وسلم :-

( لقد انقضى عهد النوم يا خديجة )…!!!

لم يكن أمره قد أرَّق قريش بعد و إن كان قد بدأ يشغل انتباهها ، فلقد كان حديث عهد بدعوته ، و كان يقول كلمته همساً و سراً .

كان الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم يومئذ قليلين جداً ..

و كان هناك من غير المؤمنين به صلى الله عليه وسلم من يحمل له كل الحب و الإجلال ، و يطوي جوانحه على شوق عظيم إلى الإيمان به و السير في قافلته المباركة ، لا يمنعه سوى مُواضعات العرف و البيئة ، و ضغوط التقاليد و الوراثة ، و التردد بين نداء الغروب و نداء الشروق .من هؤلاء كان حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه .. عم النبي صلى الله عليه و سلَّم و أخوه من الرضاعة

كان " حمزة رضى الله عنه " يعرف عظمة ابن أخيه و كماله .. و كان على بينة من حقيقة أمره ، و جوهر خصاله ..فهو لا يعرفه معرفة العم بابن أخيه فحسب .. بل يعرفه معرفة الأخ و الصديق ، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم و حمزة رضى الله عنه من جيل واحد ، و سن متقاربة .. نشأا معاً ، و ولعبا معاً ، و تآخيا معاً ، و سارا معاً على الدرب من أوله خطوة خطوة ..و لئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق فأخذ " حمزة رضى الله عنه" يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة و إفساح مكان لنفسه بين زعماء مكة و سادات قريش .. بينما عكف " محمد صلى الله عليه وسلم " على أضواء روحه التي انطلقت تنير له طريق الله و على حديث قلبه الذي نأى به من ضوضاء الحياة التأمل العميق ، و إلى التهيؤ إلى مصافحة الحق و تلقِّيه ..

نقول : لئن كان شباب كل منهما قد اتَّخذ وجهة مغايرة ، فإن حمزة لم تغب عن وعيه لحظة من نهار فضائلُ تِربِهِ و ابن أخيه …

تلك الفضائل و المكارم التي كانت تحِلِّ صاحبها مكاناً علياً في أفئدة الناس كافةً ، و ترسم صورة واضحة لمستقبله العظيم .

في صبيحة ذلك اليوم خرج " حمزة رضى الله عنه " كعادته . و عند الكعبة وجد نفراً من أشراف قريش و سادتها فجلس معهم ، يستمع لما يقولون .. كانوا يتحدثون عن" محمد صلى الله عليه وسلم" ..و لأول مرَّة رآهم " حمزة رضى الله عنه " يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه و تظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد ، و الغيظ ، و المرارة . لقد كانوا من قبل لا يبالون ، أو هم يتظاهرون بعدم المبالاة و الاكتراث . أما اليوم فوجوههم تموج موجاً بالقلق ، و الهم ، والرغبة في الافتراس ..و ضحك " حمزة " من أحاديثهم طويلاً .. و رماهم بالمبالغة ، و سوء التقدير .. و عقَّب أبو جهل مؤكداً لجلسائه أن " حمزة " أكثر الناس علماً بخطر ما يدعو إليه " محمد " و لكنه يريد أن يهون من الأمر حتى تنام قريش ثم تصبح يوماً و قد ساء صباحها ، و ظهر أمر ابن أخيه عليها ..و مضوا في حديثهم يزمجرون و يتوعدون ..و " حمزة " يبتسم تارة ، و يمتعض تارة أخرى ، و حين انفضَّ الجمع و ذهب كل إلى سبيله ، كان " حمزة " مثقل الرأس بأفكار جديدة ،وخواطر جديدة .راح يستقبل بها أمر ابن أخيه ،ويناقشه مع نفسه من جديد 000!!!

ومضت الأيام ،ينادي بعضها بعضاً و مع كل يوم تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم .. ثم تتحول الهمهمة إلى تحرُّش و " حمزة " يرقب الموقف من بعيد .. إن ثبات ابن أخيه ليَبهَرُه … و إن تفانيه في سبيل إيمانه و دعوته لَهُوَ شيء جديد على قريش كلها رغم ما عرُِفت به من تفانٍ و صمود ..!!

و لو استطاع الشك يومئذ أن يخدع أحداً عن نفسه في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم و عظمة سجاياه فما كان هذا الشك بقادر على أن يجد إلى وعي "حمزة رضى الله عنه"منفذاً أو سبيلاً..

فحمزة رضى الله عنه خير من يعرف محمداً صلى الله عليه وسلم من طفولته الباكرة ..إلى شبابه الطاهر ..إلى رجولته الأمينة السامقة..

إنه يعرفه كما يعرف نفسه ، بل أكثر مما يعرف نفسه . و منذ جاءا إلى الحياة معاً .. و ترعرعا معاً .. و بلغا أشُدَّهما معاً.. وحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلها نقية كأشعة الشمس ..!! لا يذكر حمزة رضى الله عنه شبهة واحدة ألَمَّت بهذه الحياة .. لا يذكر أنه رآه يوماً غاضباً ، أو قانطاً ، أو طامعاً ، أو لاهياً ،أو مهزوزاً ..

و " حمزة رضى الله عنه " لم يكن يتمتع بقوة الجسم فحسب ، بل و برجاحة العقل ، و قوة الإرادة أيضاً ..

و من ثم لم يكن من الطبيعي أن يتخلَّف عن متابعة لإنسان يعرف فيه كل الصدق و كل الأمانة .. و هكذا طوى صدره إلى حين على أمر سيتكَشَّف في يوم قريب ..

و جاء اليوم الموعود ..

و خرج " حمزة " من داره ، متوشحاً قوسه ، ميمماً شطر الفلاة ليمارس هوايته المحببة ، و رياضته الأثيرة – الصيد .. و كان صاحب مهارة فائقة فيه..

و قضى هناك بعض يومه .. و لما عاد من قَنَصِه ، ذهب كعادته إلى الكعبة ليطوف بها قبل أن يَقفِل راجعاً إلى داره .

و قريباً من الكعبة لقيته خادمة لعبد الله بن جدعان …

و لم تكد تبصره حتى قالت له :

[ يا أبا عمارة .. لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً ، من أبي الحكم بن هشام .. وَجَدَهُ هناك جالساً ، فآذاه و سبَّه ، و بلغ منه ما يكره ]..

و مضت تشرح له ما صنع أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم ..

و استمع حمزة رضى الله عنه جيداً لقولها ، ثم أطرق لحظة ، ثم مدَّ يده إلى قوسه فَثَبَّتها فوق كتفه ..ثم انطلق في خطى سريعة حازمة صوب الكعبة ، راجياً أن يلتقي عندها بأبي جهل .. فإن هو لم يجده هناك ، فسيتابع البحث عنه في كل مكان حتى يلاقيه ..

و لكنه لا يكاد يبلغ الكعبة ، حتى يبصر أبا جهل في فنائها يتوسطه نفراً من سادة قريش ..و في هدوء رهيب ، تقدَّم " حمزة " من أبي جهل ، ثم استل سيفه و هوى بها على رأس أبي جهل فَشَجَّهُ و أدماه ، و قبل أن يفيق الجالسون من الدهشة صاح حمزة في أبي جهل :

[ أتشتم محمدأً ، و أنا على دينه أقول ما يقول..؟! ألا فَرُدَّ ذلك عليَّ إن استطعت ].. و في لحظة نسي الجالسون جميعاً الإهانة التي نزلت بزعيمهم أبي جهل و الدم الذي ينزف من رأسه و شغلتهم تلك الكلمة التي حاقت بهم كالصاعقة .. الكلمة التي أعلن بها " حمزة " أنه على دين محمد صلى الله عليه وسلم يرى ما يراه ، و يقول ما يقوله ..

أحمزة يسلم ..؟؟

أعز فتيان قريش و أقواهم شكيمة ..؟؟

إنها الطامَّة التي لن تملك قريش لها دفعاً .. فإسلام حمزة رضى الله عنه سيغري كثيرين من الصفوة بالإسلام ، و سيجد " محمد صلى الله عليه وسلم " حوله من القوة و البأس ما يعزز دعوته و يشد أزره ، و تصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطِّم أصنامها و آلهتها ..!!

أجل .. أسلم حمزةرضى الله عنه ، و أعلن على الملأ الأمر الذي كان يطوي عليه صدره ، و ترك الجمع الذاهل يَجتَّرُ خيبة أمله ، و أبا جهل يلعق دماءه النازفة من رأسه المشجوج .. و مدَّ " حمزة " يمينه مرَّة أخرى إلى قوسه فَثَّبتها فوق كتفه ، و استقبل الطريق إلى داره في خطواته الثابتة ، و بأسه الشديد..!

كان حمزة رضى الله عنه يحمل عقلاً نافذاً ، و ضميراً مستقيماً..

و حين عاد إلى بيته ، و نضا عنه متاعب يومه، جلس يفكِّر ، و يدير خواطره على هذا الذي حدث من قريب ..

كيف أعلن إسلامه .. و متى ..؟؟

لقد أعلنه في لحظةٍ من لحظات الحَميَّة ، و الغضب ، و الانفعال ..

لقد ساءه أن يساء ابن أخيه ، و يظلم دون أن يجد له ناصراً ، فغضب له ، و أخذته الحميَّة لشرف بني هاشم ، فشَجَّ رأس أبي جهل و صرخ في وجهه بإسلامه ..

و لكن ، هل هذا هو الطريق الأمثل لكي يغادر الإنسان دين آبائه و قومه.. دين الدهور و العصور .. ثم يستقبل ديناً جديداً لم يختبر بعد تعاليمه ، و لا يعرف عن حقيقته إلا قليلاً .

صحيح أنه لا يشكُّ لحظة في صدق " محمَّد صلى الله عليه وسلم" و نزاهة قصده ..و لكن أيمكن أن يستقبل امرؤٌ ديناً جديداً ، بكل ما يفرضه من مسؤوليات و تبعات ، في لحظة غضب ، مثلما صنع " حمزة " الآن ..؟؟

لقد كان يطوي صدره على احترام هذه الدعوة الجديدة التي يحمل ابن أخيه لواءها..

و لكن ، إذا كان مقدوراً له أن يكون أحد أتباع هذه الدعوة ، المؤمنين بها ، و الذائدين عنها .. فما الوقت المناسب للدخول في هذا الدين ..؟

لحظة غضب و حميَّة ..؟ أم أوقات تفكير و روية ..؟؟

و هكذا فرضت عليه استقامة ضميره ، و نزاهة تفكيره أن يُخضِع المسألة كلَّها من جديد لتفكير صارم و دقيق..

و شرع يفكِّر .. و قضى أياماً ، لا يهدأ له فيها خاطر .. و ليالي لا يرقأُ له فيها جفن ..

و حين ننشد الحقيقة بواسطة العقل ، يفرض الشك نفسه كوسيلة إلى المعرفة ..

و هكذا ، لم يكد " حمزة " يستعمل عقله في بحث قضية الإسلام ، و يوازن بين الدين القديم ، و الدين الجديد ، حتى ثارت في نفسه شكوك أزجاها الحنين الفطري الموروث إلى دين آبائه ..و التهيب الموروث إلى دين آبائه .. التهيب الفطري الموروث من كل جديد..

و استيقظت كل ذكرياته عن الكعبة ، و آلهتها ، و أصنامها .. و عن الأمجاد الدينية التي أفاءتها هذه الآلهة المنحوتة على قريش كلِّها، و على مكة بأسرها ..

و بدا الانسلاخ من هذا التاريخ كله .. و هذا الدين العريق .. هوَّة تتعاظم مُجتازَها ..

و عجب " حمزة " كيف يتسنَّى لإنسان أن يغادر دين آبائه بهذه السهولة و هذه السرعة .. و ندم على ما فعل .. و لكنه واصل رحلة العقل .. و لما رأى أن العقل وحده لا يكفي لجأ إلى الغيب بكل إخلاصه و صدقه ..

و عند الكعبة ، كان يستقبل السماء ضارعاً ، مبتهلاً ، مستنجدا بكل ما في الكون من قدرة و نور ، كي يهتدي إلى الحق و إلى الطريق المستقيم ..

و لنصغ إليه و هو يروي بقية النبأ فيقول :

[ .. ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي و قومي ..و بتُّ من الشك في أمر عظيم لا أكتحل بنوم ..

" ثم أتيت الكعبة ،وتضرَّعت إلى الله أن يشرح صدري للحق ، و يُذهبَ عني الريب ..فاستجاب الله لي و ملأ قلبي يقيناً..

" و غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته بما كان من أمري ، فدعا الله أن يثبت قلبي على دينه…]

و هكذا أسلم " حمزة رضى الله عنه " إسلام اليقين..

أعزَّ الله الإسلام بحمزة …و وقف شامخاً قوياً يذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و عن المستضعفين من أصحابه..

و رآه أبو جهل يقف في صفوف المسلمين ، فأدرك أنها الحرب لا محالة ، و راح يحرض قريشً على إنزال الأذى بالرسولصلى الله عليه وسلم و صحبه رضوان الله عليهم ، و مضى يهيئ لحرب أهلية يشفي من خلالها مغايظه و أحقاده..

و لم يستطع حمزة - طبعاً- أن يمنع كل الأذى .. و لكن إسلامه مع ذلك كان وقاية و درعاً .. كما كان إغراء ناجحاً لكثير من القبائل التي قادها إسلام حمزة رضى الله عنه أولاً ، ثم إسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد ذلك إلى الإسلام فدخلت فيه أفواجاً ..!!

و منذ أسلم " حمزة رضى الله عنه " نَذَرَ كل عافيته ، و بأسه ، و حيلته، لله و لدينه حتى خلع النبي صلى الله عليه وسلم عليه هذا اللقب العظيم:

[أسد الله ، و أسد رسوله]…

و أول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو، كان أميرها " حمزة رضى الله عنه " …

و أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه و سلم لأحد من المسلمين ، كانت لحمزة رضى الله عنه..

و يوم التقى الجمعان في غزوة " بدر " ، كان أسد الله و أسد رسوله هناك يصنع الأعاجيب…!!

و عادت فلول قريش من بدر إلى مكة تتعثَّر في هزيمتها و خيبتها .. و رجع أبو سفيان مخلوع القلب ، مطأطئ الرأس ، وقد خلف على أرض المعركة جثث سادة قريش ، من أمثال أبي جهل .. و عتبة بن ربيعة ..وشيبة بن ربيعة .. وأمية بن خلف .وعقبة بن أبي معيط ..والأسود بن عبد الأسد المخزومي ..والوليد بن عتبة ..والعاص بن سعيد .. والنصر بت الحارث .. والعاص بن سعيد .. وطعمة بن عدي ..وعشرات مثلهم من رجال قريش و صناديدها .

وما كانت قريش لتتجرع هذه الهزيمة المنكرة في سلام ..فراحت تعد عدتها ،وتحشد بأسها ويأسها ،لتثأر لنفسها ولشرفها ولقتلاها .. وصممت قريش على الحرب

وجاءت غزوة " أحد"حيث خرجت قريش على بكرة أبيها ، ومعها حلفاؤها من قبائل العرب ، بقيادة أبي سفيان مرة أخرى وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه

إلى رجلين اثنين : الرسول عليه صلاة الله وسلامه .. وحمزة رضي الله عنه وأرضاه ..

أجل… والذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم قبل الخروج للحرب ، يرى كيف كان "حمزة" بعد الرسول بيت القصيد وهدف المعركة .. ولقد اختاروا قبل الخروج ، الرجل الذي وكلوا إليه أمر حمزة ،وهو عبد حبشي ، كان ذا مهارة خارقة في قذف الحربة..

جعلوا كل دوره في المعركة أن يتصَّيد " حمزة " ويصوِّب إليه ضربة قاتلة من رمحه ،

وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر ، مهما يكن مصير المعركة واتجاه القتال

ووعدوه بثمن غالٍ وعظيم ـ هو : حريته ..فقد كان الرجل واسمه " وحشي " عبداً لجبير بن مطعم .. وكان عم جبير قد لقي مصرعه يوم بدر فقال له جبير :

[ اخرج مع الناس وإن أنت قتلت حمزة فأنت عتيق ] …!

ثم أحالوه إلى " هند بنت عتبة " زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضاً و دفعاً إلى الهدف الذي يريدون ..

و كانت هند قد فقدت في معركة بدر أباها ، و عمها ، و أخاها ،و ابنها ..و قيل لها إن " حمزة " هو الذي قتل بعض هؤلاء ,و أجهز على البعض الآخر ..

من أجل هذا كانت أكثر القرشيين و القرشيات تحريضاً على الخروج للحرب ، لا لشيء إلا لتظفر برأس حمزة مهما يكن الثمن الذي تتطلبه المغامرة ..!!و لقد لبثت أياماً قبل الخروج للحرب ، ولا عمل لها إلا إفراغ كل حقدها في صدر " وحشي " و رسم الدور الذي عليه أن يقوم به .. و لقد وعدته إن هو نجح في قتل حمزة بأثمن ما تملكه المرأة من متاع و زينة- فلقد أمسكت بأناملها الحاقدة قرطها اللؤلؤي الثمين و قلائدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها ، ثم قالت و عيناها تحدقان في وحشي : [ كل هذا لك إن قتلت حمزة ] …‍‍‍‍‍‍ و سال لعاب وحشي .. و طارت خواطره تواقة مشتاقة إلى المعركة التي سيربح فيها حريته ، فلا يصير بعد عبداً أو رقيقاً ، و التي سيخرج منها بكل هذا الحلي الذي يزين عنق زعيمة نساء قريش ، و زوجة زعيمها و ابنة سيدها ..‍‍‍‍‍‍

كانت المؤامرة إذن ..و كانت الحرب كلُّها تريد " حمزة " رضي الله عنه بشكل واضح و حاسم .

و جاءت غزوة أحد …

و التقى الجيشان .. و توسط " حمزة " أرض الموت و القتال ، مرتدياً لباس الحرب .. و على صدره ريشة النعام التي تعود أن يزين بها صدره في القتال …و راح يصول و يجول ، لا يريد رأساً ، إلا قطعه بسيفه ، و مضى يضرب في المشركين ، و كأن المنايا طوع أمره ، يقذف بها من يشاء فتصيبه في صميمه ..‍‍وصال المسلمون جميعاً حتى قاربوا النصر الحاسم و حتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة ..و لولا أن ترك الرماة مكانهم فوق الجبل و نزلوا إلى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم .. لولا تركهم مكانهم و فتحهم الثغرة الواسعة لفرسان قريش لكانت غزوة أحد مقبرة لقريش كلَّها : رجالها ..و نسائها ..بل و خيلها ..و إبلها ..

لقد دهم فرسانها المسلمين من ورائهم على حين غفلة ، و أعملوا فيهم الظامئة المجنونة .. وراح المسلمون يجمعون أنفسهم من جديد ، و يحملون سلاحهم الذي كان بعضهم قد

و ضعه حين رأى جيش قريش ينسحب و يولي الأدبار .. و لكن المفاجأة كانت قاسية و عنيفة .و رأى " حمزة " ما حدث فضاعف قوته و نشاطه و بلاءه ..و أخذ يضرب عن يمينه و شماله …و بين يديه و من خلفه … و " وحشي " هناك يرقبه ، و يتحين الفرصة الغادرة ليوجه نحوه ضربته .. و لندع " وحشياً " يصف لنا المشهد بكلماته :

[…و كنت رجلاً حبشياً ، أقذف بالحربة قذف الحبشة ، فقلما أخطئ بها شيئاً …فلما التقى الناس خرجت أنظر " حمزة " وأتَبَصَّرُه حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورَق .. يَهُدُّ الناس َ بسيفه هَدّاً ، ما يقف أمامه شيء .. "فوالله إني لأَتَهَيَّأ له – أريده ، وأستتر منه بشجرة لِأَتَقَحَّمَهُ أو لِيدنو مني ، إذ تقدَّمني إليه "سباع بن عبد العزَّى ".فلما رآه

حمزة صاح به : هلُمَّ إليَّ يا ابن مقطِّعَة البظور . ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه…

" عندئذ هززت حربتي ، حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت في ثنَّتِه حتى خرجت من بين رجليه .. ونهض نحوي ، فغُلِب على أمره ثم مات …

" وآتيته فأخذت حربتي ، ثم رجعت إلى المعسكر فقعدت فيه ، إذ لم يكن لي فيه حاجة –فقد قتلته لأُعتَق ..] ولا بأس في أن ندع " وحشياً يكمل حديثه:[ فلما قدمت مكة أُعتقت ، ثم أقمت بها حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح فهربت إلى الطائف .." فلما خرج وفدٌ من الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليُسلم تعيَّت عليَّ المذاهب . وقلت : ألحَق بالشام ، أو اليمن ، أو سواها …

" فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل : ويحك … إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللهِ لا يقتل أحداً من الناس يدخل دينه … " فخرجت حتى قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فلم يرني إلا قائماً أمامه أشهد شهادة الحق . فلما رآني قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أوحشيٌّ قلت : نعم يا رسول الله .. قال: فحدِّثني كيف قتلت حمزة ، فحدثته … فلما فرغت من حديثي قال : ويحك .. غيِّب عني وجهك .. فكنتُ أتنكَّب طريق رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث كان ؛ لئلا يراني حتى قبضه الله إليه .. " فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذَّاب صاحب اليمامة خرجت معه و أخذت حربتي التي قتلت بها حمزة … فلما التقى الناس رأيت مسيلمة الكذَّاب قائماً بيده السيف ، فتهيَّأت له ، وهززت حربتي ، حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه …

" فإن كنت قد قتلتُ بحربتي هذه خير الناس وهو حمزة … فإني لأرجو أن يغفر الله لي إذ

قتلت بها شرَّ الناس مسيلمة "

هكذا سقط أسد الله وأسد رسوله، شهيداً مجيداً…‍‍

وكما كانت حياته مُدَوِّيةً ، كانت موتته مُدَوِّيةً كذلك ..

فلم يكتف أعداؤه بمقتله .. وكيف يكتفون أو يقنعون ، وهم الذين جنَّدوا كل أموال قريش وكل رجالها في هذه المعركة التي لم يريدوا بها سوى الرسول وعمه حمزة …

لقد أمرت "هند بنت عتبة " زوجة أبي سفيان .. أمرت وحشيَّاً أن يأتيها بكبد حمزة ..واستجاب الحبشيُ لهذه الرغبة المسعورة .. وعندما عاد بها إلى هند كان يناولها الكبد بيمناه ، ويتلقى منها قرطها و قلائدها بيسراه ، مكافأة له على إنجاز مهمته ..

ومضغت هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون ببدر ، وزوجة أبي سفيان قائد جيش الشرك والوثنية .. مضغت كبد حمزة ، راجيةً أن تشفي تلك الحماقة حقدها وغلَّها ، ولكن الكبد استعصت على أنيابها ، وأعجزتها أن تُسيغَها ، فأخرجتها من فمها ، ثم علت صخرةً مرتفعة ، و راحت تصرخ قائلة :

نحنُ جَزينـــــاكم بيوم بَدرِ

......................والحربُ بعد الحربِ ذات سُعرِ

ما كان عن عُتبةَ لي من صبر

..........................ولا أخي ، وعمِّه ، وَبكري

شَفَيتُ نفسي وقَضَيتُ نَذري

...........................أزاح وَحشيُّ غَليلَ صدري

وانتهت المعركة ، وامتطى المشركون إبلهم ، وساقوا خيلهم قافلين إلى مكة .. ونزل رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه معه إلى أرض المعركة لينظر شهداءها ..وهناك في بطن الوادي ، وإذ هو يتفحّص وجوه أصحابه الذين باعوا لله أنفسهم ،

وقدَّموها قرابين مبرورة لربهم الكبير ، وقف فجأة …ونظر ، فوجم ..وضغط على أسنانه ..وأسبل جفنيه..فما كان يتصور قط أن يهبط الخلق العربي إلى هذه الوحشية البشعة .فيُمَثلَ بجثمان ميت على الصورة التي رأى فيها جثمان عمه الشهيد المجيد " حمزة بن عبد المطلب " أسد الله ..وسيد الشهداء ..وفتح الرسول عينيه التي تألق بريقهما كوَمضِ القدَر

وقال وعيناه على جثمان عمه :[لن أُصابَ بمثلك أبداً.. وما وقفتُ موقفاً قط أغيظ إلي من مَوقِفي هذا..] ثم التفت إلى أصحابه وقال :

[لولا أن تحزن صفيَّة- أخت حمزة – ويكون سُنَّة من بعدي ، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير .. ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن ، لاُمَثِّلنَّ بثلاثين رجلاً منهم..] فصاح أصحاب الرسول :

[ واللهِ، لئن أظفرنا اللهُ بهم يوماً من الدهر ، لَنُمَثِّلنَّ بهم ، مُثلًةً لم يُمثِّلها أحدٌ من العرب ..‍]ولكن الله الذي أكرم " حمزة " بالشهادة ، يكرمه مرة أخرى بأن يجعل من مصرعه فرصة لدرس عظيم يحمي العدالة إلى الأبد ، ويجعل الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجباً وفرضاً ..

وهكذا لم يكد رسول الله صلى الله عليه و سلم يفرغ من إلقاء وعيده السالف حتى جاءه الوحي وهو في مكانه لم يبرحه بهذه الآيات الكريمة :

[ ادعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجَادِلهم بالتي هي أَحسن ، إنَّ رَبَّك هو أعلمُ بِمَن ضَلَّ عن سبيله ، وهو أعلَمُ بالمهتدين ..

وإن عَاقَبتُم فعَاقِبوا بِمِثلِ ما عُوقبتُم به ، ولئن صَبَرتُم لَهُوَ خيرٌ للصابرين ..

وَاصبِر ، وما صبرُك إلا بالله ، ولا تحزن عليهم ، ولا تكُ في ضيق مِمَّا يمكرون ..

إنَّ الله مع الذين اتقَوا ، والذين هُم مُحسِنون ..]

وكان نزول هذه الآيات ، في هذا الموطن ، خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على الله..

كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحبه أعظم الحب ، فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمَّه الحبيب فحسب ..

بل كان أخاه من الرضاعة …

وتِربَه في الطفولة …

وصديق العمر كله …

وفي لحظات الوداع هذه ،لم يجد رسول الله صلى الله عليه و سلم تحيَّةً يودعه بها خيراً من أن يصلِّي عليه بعدد شهداء المعركة جميعاً ..

وهكذا حمل جثمان " حمزة " إلى مكان الصلاة على أرض المعركة التي شهدت بلاءَه ، واحتضنت دماءه ..فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، ثم جيء بشهيد آخر ،فصلى عليه الرسول ..ثم رُفع وَتُرِك حمزة مكانه ، وجيء بشهيد ثالث فوضع إلى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول … وهكذا جيء بالشهداء … شهيد بعد شهيد …و رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي على كل منهم وعلى حمزة معه حتى صلى على عمِّه يومئذ سبعين صلاة…

وينصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من المعركة إلى بيته، فيسمع في طريقه نساء بني عبد الأشهَل يَبكين شهداءَ هُن ، فيقول عليه الصلاة والسلام من فَرط حنانه وحُبِّه :

[ لكنَّ حمزة لا بَوَاكيَ لهُ ]..‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ويسمعها "سعد بن معاذ " فيظنُّ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يطيب نفساً إذا بكت النساء عمَّه ،فيسرع إلى نساء بني الأشهل ويأمُرًهُنَّ أن يبكين حمزة ، فيفعَلن .. ولا يكاد الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع بكاءَ هنّ حتى يخرج إليهن ، ويقول :

[ ما إلى هذا قَصَدت، ارجِعنَ يرحمكن الله، فلا بُكَاءَ بعد اليوم ] ..

ولقد ذهب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يتبارون في رثاء "حمزة" وتمجيد مناقبه العظمى ..فقال حسَّان بن ثابت في قصيدة طويلة له :-

دَع عنك داراً قد عفا رَسمُها

..............................وَابكِ على حمزة ذي النائل

اللاَّبس الخيل إذا أحجمَت

..............................كَاللَّيث في غابته ، الباسِل

أبيضُ في الذروة من هاشــم

..............................لم يَمرِ دون الحق بالباطِل

مالَ شهيداً بينَ أسيــافكـم

..............................شُلَّت يدا وَحشِيّ مِن قاتل

وقال عبد الله بن رواحة :-

بكَت عيني وحقَّ لها بُكاها

..........................وما يُغني البكاء ولا العويل

عَلى أسَدِ الإله غَداةَ قالوا :

............................أحمزةُ ذا كُم الرجُل القتيل

أُصيبَ المسلمون به جميعاً

........................هناك وقد أُصيبَ به الرسول

أبا يَعلى ، لكَ الأركان هُدَّت

..........................وأنت الماجدُ البَرُّ الوصـول


وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخت حمزة :

دعاهُ إلهُ الحقِّ ذو العرش دعوةً

...................................إلى جنة يحيا بها ، وسرور

فذلك ما كُنَّا نُرجِّي ونرتجي

................................لحمزةَ يومَ الحشرِ خيرَ مصير

فواللهِ لا أنسَاك ما هبَّتِ الصَّبـا

............................بكاءَ وحزناَ ،مَحضري وَمَسيري

على أسدِ اللهِ الذي كان مِدرَهاً

..................................يذودُ عن الإسلام كلَّ كَفُور

أقولُ وقد أعلَى النَّعِيُّ عشيرتـي

.............................جزى اللهُ خيراً من أخ ونَصِير


على أنَّ خير رثاء عطَّر ذكراه كانت كلمات الرسول له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال :

[ رحمةُ اللهِ عليك ، فإنك كنت – وَصُولاً للرحم ، فَعُولاً للخيرات ] ..

لقد كان مصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في عمه العظيم فادحاَ …وكان العزاء فيه مهمة صعبة …بَيدَ أن الأقدار كانت تدَّخر لرسول الله أجمل عزاء .

ففي طريقه من "أحد " إلى داره مرَّ عليه الصلاة والسلام بسيدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها ، وزوجها ، وأخوها …وحين أبصرت المسلمين العائدين من الغزو ، سارعت نحوهم تسألهم عن أنباء المعركة … فنعوا إليها الزوج ..والأب ..والأخ ..

وإذا بها تسألهم في لهفة :[ وماذا فعل رسول الله ] ..؟؟

قالوا :-[ خيراً …هو بحمد الله كما تحبين ] …‍‍‍‍

قالت :-[ أَرونيه ، حتى أنظُرَ إليه ] ..‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

ولبثوا بجوارها حتى اقترب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلما رأته أقبلت نحوه تقول :

[ كلُّ مصيبة بعدك ، أمرها يهون ] …

لقد كان هذا أجمل عزاء وأبقاه …

ولعل رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ابتسم لهذا المشهد الفذ الفريد ،فليس في دنيا البذل ، والولاء ، والفداء لهذا نظير …

سيدة ..ضعيفة، مسكينة ، تفقد في ساعة واحدة أباها ، وزوجها ، وأخاها … ثم يكون ردُّها على الناعي لحظة سماعها النبأ الذي يهدُّ الجبال :[ وماذا فعل رسول الله ]…؟؟؟

لقد كان مشهداً ليجعل منه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلَّم عزاءً أيَّ عزاء …. في أسد الله ، وسيد الشهداء


خالد محمد خالد

دايم الجرح
February 16th, 2009, 23:16
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

رضى الله عن حمزة اسد الله .

كانو رجال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

المنتقد
February 22nd, 2009, 23:14
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
رضى الله عن حمزة اسد الله .
كانو رجال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
حياك الله اخوى الحبيب دايم العز ...سلمه الله
نعم ونعم الرجال ونعم الصحبة ..سرنى وشرفنى مرورك بارك الله فيك..والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هلالي القرن
February 25th, 2009, 17:57
مشكور على الموضوع الرائع
شكرا لك .

المنتقد
February 26th, 2009, 09:02
مشكور على الموضوع الرائع
شكرا لك .

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حياك الله اخوى الغالى الهلالى ....سلمه الله
والاروع مرورك الذى اسعدنى بارك الله فيك ....والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته