المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ملك المغول



محمود توفيق
May 7th, 2012, 17:34
ملك المغول
(القصة التي حصلت على المركز الأول في مسابقة كاتب الألوكة الثانية التي أجراها موقع الألوكة)


في احتفالٍ مشحونٍ بالحماسة والغبطة والكبرياء، اقتصرَ على المخلصين الذين لا تشوب قلوبَهم شائبةٌ، لا يتسلَّل صخبه إلى الخارجِ من تلك البناية الأثرية المنعزلة المبنية من الحجارةِ السوداء في المدينة العريقة، التي يوشك شجر اللبلاب أن يغطِّي بابَها المصنوع من خشبٍ عريضٍ مصفَّحٍ بالتوتياء، وتراكمتْ أوراقُ الشجر المتساقطة حتى سترتْ أرضَ حديقتها تمامًا، في هذا الاحتفال المغلق الغائب عمَّا يحيط به من أوجاعِ المدينة المصلوبة، يرتقي الدرجَ المرمريَّ على مهلٍ، يجلس على عرشِه بطمأنينةٍ وارتياحٍ، ويتلفَّت يمينًا وشمالاً وعلى وجهه ابتسامةٌ حليبيةٌ طيِّبةٌ لا تناسب عظمةَ المرسم التاريخيِّ، ويكفُّ عن التلفُّت، ليستمع ووجهه للأرضِ لخطبةٍ عصبيةٍ مرتبكةٍ، يتنازعها اللَّحنُ والفصاحة، وطلاقة اللسان حينًا والتأتأة، من حسناء كانت تلعبُ في شعرِها مضطربة، صوتها نديٌّ وتائهٌ ومحزونٌ، ولا صدى للخطبةِ عليه ولا على أحدٍ من شعبه، غير الصمت وشيء من خشوعٍ، فقط يشعر ويشعرون أنها تقول قولاً جليلاً، وتتقدَّمُ إليه بأدبِ الرعيَّة تتوِّجه ملكًا للمغولِ على السَّهل والغابة، وتضع حول عنقِه قلادةً من أنياب الوحوش، أخذ يلعب فيها بأنامله حتى شرد، وأفاق وهي تفاجئه بصولجانٍ تضعه في يمناه، فتمسَّك به كأنه كان يبحث عنه، ومالتْ إليه وعطَّرته بزيتِ الورد الشاميِّ، ووضعتْ فوق رأسِه إكليلاً من أطواق الذهب المجدولة تزيَّنت بالياسمين، ينسدل من تحتِ الإكليل شعرُه الأسود الناعم الفاحم، ويكاد ينزل على عينيه الضيقتين بما فيهما من الرِّضا والحبور، لم يملك نفسَه من الامتنان ومن سحر اللحظة المشرقة، فمال عليها ووضع على خدِّها قبلةً طويلةً، وهو يمسكُ بكفِّه الإكليل أن يقعَ من أعلى رأسِه.
بعد أن تمَّتِ المراسمُ وأُعلِن ملكًا، وعاد الجمع للتلقائية والتبسُّط، جلس أخيرًا في هدوءٍ أعلى مزلجٍ خشبيٍّ في الزاوية، يأكلُ من صحنِ المهلبيَّة، خالي القلب غافلاً عن مزحةِ أحد الرعيَّة، ذاك الذي يتسلَّل إليه من خلفه وهو يبتسم، حتى وقف خلفَ ظهرِه تمامًا، وملك المغول ينظر مهتمًّا إلى الجانب، لظلِّه الذي اختلف فجأةً وصار له رأسان؛ رأسٌ وادعٌ ورأسٌ متابعٌ، وقبل أن يلتفتَ خلفه ليستطلعَ الأمر، بدفعةٍ واحدةٍ أكبَّه صاحبه من أعلى المزلج، يطيرُ صارخًا إلى الرملِ هو وصحنه، والإكليل والصولجان، ليفيق الغافلون على صوتِ الارتطام، ويرفع وجهَه الذي التصق به الرَّملُ والدم بصعوبةٍ، ليضعه على الرمل ثانيةً غائبًا عن الوعي.
هذه دارٌ سوريةٌ للأطفال المعاقين ذهنيًّا في مدينة (حمص)، منعزلةٌ، قلَّما دخل إليها أو خرج منها أحدٌ، وتلك المربِّية التي أقامت ذاك الاحتفال، كانت حسناء ذكيةً لبقةً، تعدُّ الدكتوراه في رعاية الأطفال المغوليين، لاحظ الذين يطرقون بابَها غرابةَ أطوارِها في الشُّهور الأخيرة، جامع القمامة، بائع الحليب، كشَّاف الكهرباء، موزِّع الطرود، كلهم أخافتهم الهيئة الآخذة في التحوُّل، وفكرها الذي اضطرب، والأثواب الملطَّخة من أكلِها المانجو والشيكولاتة التي تفتح بها الباب، وسمعُها الذي يضعف، ولسانها الذي انعقد، صارت نصف مغوليةٍ، وإن استمرَّ الحال هكذا، ستصير نسخةً ممن تربيهم؛ وشيءٌ قابضٌ مشؤومٌ أن يُرَى إنسانٌ وهو يُسحَب للبله.
صراخ الأطفال يصل إليها ضعيفًا، بعد أن ضعف سمعُها، تندفع عائدةً من حجرتها على الصخب والعويل، خائفةً من أن شيئًا من الرماح التي تصوَّب إلى ضلوع المدينة المصلوبة قد ضلَّ طريقه، واقتحم عالمها المخفيَّ اللطيف، تشقُّ الطريق المزدحم إليه، بين رعيَّةٍ تبلبلوا وذعروا، إلى مليكها الذي شجَّ رأسه، ولم يعد يثق بما تخفيه الظلال، تفتِّش في السقفِ وفي الحوائط، لا ثقوب ولا غبار، تحمله بين ذراعيها وهو يئنُّ، ينظرُ في عينيها نظرةَ شكوى وقد مطَّ شفته، يشكو إليها بالإشارةِ البريئة واللهجة العسِرة دمَه الذي سال، ووجهه الذي تورَّم، وساقه التي توجعه.
تلك الغريبة عن (حمص العديَّة)، والتي جاءت بها الأقدار قبل ثورة الشعبِ بنصف عامٍ، المصابة برهاب الدم، ولا تتحمَّلُ رؤية أي جرحٍ ينزف، ترتعش بشدةٍ، تجري له الإسعافات الأوليَّة وتضمِّده بيدين مرتبكتين، تحاولُ أن تبدو متماسكةً، تدَّعي ذلك حتى بالدندنة، تقاوم الإغماءة، الإغماءة التي تزحفُ إليها كضبابٍ واسعٍ ستختفي فيه، كلَّما اقترب منها ضبابُ الإغماء أكثر وأوشك أن يتغشَّاها، تدندن بطريقةٍ أشد عصبيةٍ، برقبةٍ متشنجةٍ، وصوتٍ كالفحيح، حتى أعيتها المطاردة، وارتمَى رأسُها على الأرضِ بين الأطفال المغوليين، وهي تشعر بدوخةٍ قويةٍ، ورغبةٍ في التقيؤ، وحاجةٍ للبكاء، مرَّ عليها وقتٌ قليلٌ في رقادها، حتى أتاها في الغمامِ خيالاتُ من قضوا نحبهم، ومن سُحبوا للعذاب المقيم في الأقبية، ورجال يتأبَّطون صحونًا، وقفوا على مقربةٍ منها وهي ممددةٌ على مرمرٍ ممرَّدٍ، يتفقَّدونها جميعًا، الموتَى وهم في أكفانهم، وبقع الدم على القماش الأبيض، المعذبون وهم في السلاسل، يتألمون من القروح التي على ظهورهم، ويتململون من القملِ في الشَّعرِ الطويل، وجائعون مكتئبون، لاجئون يحملون الصحونَ تحت آباطهم، أسرُّوا في آذان بعضهم بعضًا يتشارورن، يقتربون جميعًا، فزعتْ منهم وأزاحتهم عنها: ابعدوا، ابعدوا، ابعدوا! واعتدلتْ من إغمائها متعبةً كأنها قامتْ من كابوسٍ، وابتسمتْ تطمئن ملكَ المغول والرعيَّة، تكمل التضميدَ مهدودة القوَى، وهو يئنُّ، وحتى بعد أن فرغتْ من إسعافه ظلَّ يئنُّ، فأخذتْ توزِّع القبلات على خدَّيه بشيءٍ من التوتُّر والتوسل، كأنها ترشوه حتى يكفَّ عن الأنين، خائفة حد الجنون أن تخرج؛ فالشارعُ الموتُ، وكل مصابٍ تهمةٌ، والمعارف شبهةٌ.
ذاكرتها التي تدهورتْ لم تعد تحوي الكثير، ما تبقَّى خيالاتٌ بعيدةٌ، بغير ألوانٍ، لأشياء كأنها قد حدثتْ منذ قرنٍ من الزمن، الأحداث حلمٌ، والناس أشباحٌ، تتذكَّر بصورٍ مشوَّشةٍ نفسَها، دارسة الدكتوراه وهي تستلم الدار وتبتسم للأطفال ممتلئةً بالثقة والتفاؤل، وتتابع العاملَ وهو يفرِّغ الصناديقَ من الكتب والمراجع ويرصُّها في المكتبة، تتذكَّر (حمص) قبل نزيفها الجنونيِّ، مدينةٌ ودودةٌ وأهلها كرامٌ، وهذا هو الوجه البشوش للخالة (نور)، التي تستضيفها في موعدٍ ثابتٍ، عصر الخميس مع جماعةٍ من نسوة المدينة، أكواب الشاي، الثرثرة، وصفات الطعام، ترشيح أماكن للتسوق، درسٌ عمليٌّ في أشغالِ الإبرة، والعلاقة تتعمَّق بين الخالة نور ووافدة حمص رغم اختلاف السنِّ والثقافة، والخالة لا تملُّ من الكلامِ عن أبنائها الثلاثة، وبخاصة (أيمن) الضابط الشاب، تردِّد دائمًا بمكر العجائز اللطيف المفضوح أنه يبحث عن عروسٍ من أصلٍ طيِّبٍ، وتسأل الوافدةَ - وهي تظنَّ أنها لا تعرف حول أي شيءٍ تحوم - تسألها عن رأيها في حياةِ حمص، وعن نيتها في الاستقرارِ في حمص للأبد، وأسئلة أخرَى عن الأهل والعائلة، أشياء كهذه كثيرة، مع اللطف وحسن العشرة، تعلقت الفتاةُ بالخالةِ نور تعلُّقًا شديدًا، وبالضابط الشابِّ صاحب الصورة الجادة في غرفةِ الاستقبال، الغائب كثيرًا في وحدتِه العسكرية، نما فيها شيءٌ بلطفٍ وحشمةٍ وانطواءٍ، كما ينمو عشبٌ على حجرٍ؛ رأته مراتٍ قليلةً تُعدُّ على أصابع اليدين ومن بعيدٍ، لم تسمع فيها صوته، وإن أُتيح لها سماع صوته الجميل وهو يقرأ القرآن من شرائط تسجيلٍ تعتزُّ بها أمُّه، وقد أسعدها أنه نشأتْ علاقةُ استلطافٍ بينه وبين ملك المغول، الذي تفضِّل أن يصاحبَها لتلك الزيارة الأسبوعيَّة دون غيره، للطفِه وأدبه، وسرعة استجابته، وتذكر باسمةً كيف ضرب النقيبَ على ظهرِه وهو يصلِّي؛ لأنه كان ينتعل (البسطار) في صلاتِه، فأضحك أهل البيت كلهم، وكانت تتخوَّف من أنه قد يستغلُّ ولعَ ملك المغول بالورق وصنع الكرات الورقيَّة، فيضع في جيبه رسالةً مكورةً لها يعرض عليها الخطوبة؛ لذا كانت تفتِّش جيوبَ الملك بعد كلِّ زيارةٍ وقلبها يدقُّ، ولم تكن تجد شيئًا، فتشعر بارتياحٍ لا يخلو من حسرةٍ.
وفي هذه الأجواء الآمنة السارَّة، التي تتوقَّع فيها تلك الفتاةُ المجتهدة الشفَّافة الصريحة أن تصارحَها الخالةُ نور في أي وقتٍ وتعرض عليها الخطوبة، هبَّتْ رياحُ الغضب في سوريا، وزمجر الخوف الهمجيُّ في قلوب الآمنين من شدَّة الاقتحام، في وجوه رواد المقاهي النائية الذين لم يمنعهم المجهولُ من رشفِ القهوة على عجالةٍ مع الأصحاب وتبادل الأخبار السيئة، في ملامحِ الأطفال المهرولين للبقالاتِ يستترون بالحوائطِ وصناديق النفايات حتى يعودوا بالسردين، وفي العصريةِ قبل الأخيرة، ذهبت ومعها ملك المغول، انشغلن بحديثِ الثورة التي هبَّتْ كما هو الحال من وقت اندلاعها، وحكتِ الأمُّ بشيءٍ من الرضا والفخر عن تقدم ابنها الثاني (أسامة) صفوف المتظاهرين من أبناء الحيِّ، وعن اجتماعهم عنده في غرفةٍ فوق السطح بعد منتصف الليل، وسعادة النقيب - من جهةٍ ثانيةٍ - يفكِّر جدِّيًّا في الانشقاق، وهي تخافُ أن يغتالوه إن فعل، بينما كان (أحمد) ابنها الصغير على الأرضِ يستمع بنشوةٍ، وانفضَّتِ الجلسة، ومضتْ للدار، ومعها ملك المغول الذي مزَّق كثيرًا من الورقِ عند الناس وصنع كرتين ورقيتين وحملهما في جيبيه، مضتْ في خمودٍ، فالبطلُ الوسيم الجادُّ صاحب الصورة المعلَّقة، يتَّجه للمجهول، ممَّا أطفأ شيئًا من الجاذبية التي كانت تشعُّ من البرواز، وما كان مغريًا صار يستحقُّ المراجعة ومزيدًا من التأمل.
غابت لأسبوعٍ، ثم أتتْ للعصريةِ الأخيرة بغير توهجها المعهود، وهي تستمعُ للخالة بزهدٍ وبروحٍ حائرةٍ، يباغت الجمعَ صوتُ المروحيَّة الذي يقترب، ترمي نظرَها للغبار الذي هيَّجته في الخلاءِ البعيد، ثم هذا دوي دانةٍ راعبةٍ، زُلزلوا جميعًا، وتخبَّطوا في حركتِهم داخل الشقَّة، يتفقَّد أهلُ البيت ضيفاتهم محرجين، لا يعرفون كيف يطلبون منهن الرحيل قبل القذيفة الثانية، يحكمون إغلاقَ النوافذِ والستائر؛ منعًا لمزيدٍ من الغبارِ الذي عبَّأ الشقة، ولم يعد أحدٌ منهم يرَى الآخر، من جراء الدانة التي دمَّرتِ الطابق العلويَّ، والضيفات محرجاتٌ أيضًا لا يعرفن هل عليهنَّ أن يرحلنَ ليتركنهم لمعالجة أمورهم أم عليهنَّ أن يكنَّ بجوارهم يشاطرنهم الرعبَ وقلَّة الحيلة والانتظار، ولما انقشع شيءٌ قليلٌ من الغبرة، تدافعوا يشقُّون السحابةَ الداكنة على الدرجِ صاعدين، بسعالٍ لا ينقطع، ووجوهٍ ملطَّخةٍ، لنجدة مَن تبقَّى من أهلِ الطابق العلويِّ حيًّا تحت الغبار، مخلِّفينها وراءهم فاقدةَ الوعي، ونسوة باكيات يدعون بالويلِ والهلاك، وأطفالاً غيبهم الهلعُ في أحضانِ الأمهات، وأكوابَ شايٍ قد علاها الترابُ والحصَى، وهي ممددةٌ غائبةٌ عن الوعي، جاءتها خيالات المغوليين يتفقدونها، في ملابس بيضاء، يمسكونها برفقٍ من يديها، ويطلبون منها أن تعودَ معهم، فقامت في هدوءٍ، لمـَّا أفاقت من إغمائها، هربتْ للدارِ جريًا، فتحتْ صندوقَ البريد الخشبيّ عند البوابة الخارجية، وجدتْ فيه خطابًا وصل إليها اليوم، أخذته وجرت إلى غرفتها منهزمةٍ.
من يومها أغلقتْ عليها الدَّارَ وعلى جماعةِ المغول، بدون أن تمهِّد للقطيعةِ مع أحبابها أو تختلق الأعذار، فلا السلام العابر، ولا حتى اتصالاً، ولا سؤالاً للخالة نور عن آخرِ الأخبار عن النقيبِ الذي أعياه الضمير، والثائر الذي يجتمعُ النَّاسُ عنده في غرفة فوق السطح قبل أن تُقصَف، تجاهلتْ كلَّ شيءٍ تمامًا، ببلادةٍ عنيدةٍ.
ولمـَّا تسلَّل إليها كلُّ شيءٍ، تهرب منه عبر التلفاز، هربتْ من النشراتِ والتغطيات، ولم تعد تحوِّل تلفازَها عن قنواتِ الأطفال، وهذا يجعل منها - من وجهة النظر الرسمية - سوريةً صالحةً، وبدأت تنكمشُ على المغوليين لديها في الدَّار، تتودَّد إليهم كي يقبلوها بينهم، في عالم المغول الورديِّ الذي يحيا بغير توقُّعاتٍ، وبغير مفاجآتٍ، ولا يشمُّ أهله رائحة البارود والدم؛ هذه البسمة، نظرة العين، تصفيفة الشعر، الإيماءة الهادئة، الكلام المبعثر، وذاك الشرود البعيد الوديع، كلها أخذتْ تتشرَّبها منهم، بانبهارٍ خرافيٍّ ودأبٍ مخيفٍ؛ وأيًّا ما كان ما فعل بها ذلك، فإن هذا البله الذي انحطَّتْ فيه يوفِّر لها الأمنَ والسلامة، من سلطةٍ لا تطلبُ من المواطنين شيئًا إلاَّ التخلُّف العقلي، وما أشد سعادتها عندما صحتْ في صبيحة يومٍ ما وتثاءبتْ وتمطَّأتْ وتحسَّست تطورًا مذهلاً؛ اكتشفتْ أنَّ عليها أن تعرض مرتبةَ نومها المبقَّعة للشمس أعلَى الدار.
تضع راحةَ يدها بقلقٍ على جبهته، درجة حرارته مرتفعةٌ بعض الشيء، وأنينه مقلقٌ إلى حدٍّ ما، وصوته متحشرجٌ، وما زالت تمتلك من العقل رغمًا عنها ما يكفيها للشكِّ في إصابته بنزيفٍ داخليٍّ، ويستلزم الأمر عمل أشعةٍ لحسمِ هذا الشكِّ، والمستشفى بعيدٌ، على بعد صدمةٍ، لذا ضاعفتْ من احتضانِه وإلهائه باللعب، وبالإكليلِ الذي سقط من رأسِه والصولجان، لعله يسكت، فيعطيها بسكوتِه علامةً على أنه بخيرٍ؛ لأنها ليست بخيرٍ، فهي هاربةٌ، هاربةٌ من نفسِها، من أهلها، من الوطن والذاكرة.
ملك المغول ما زال في أنينه، يوشك أن ينام، والصوت الذي يتردَّد في صدرِه كصوت عجوزٍ يحتضر، والأطفال يطلُّون عليه في براءةٍ، يواسونه بغير لغةٍ وبغير تكلُّفٍ، وهي تهدهده، وتهدهد مخاوفها، ورغم أنها تأخرتْ ذهنيًّا، بأقصى قدرٍ ممكنٍ، إلاَّ إنها تذكَّرت أيضًا ما قيل عن (الشبيحة) وتصيُّدهم المصابَ والمكسورَ والمرضوضَ من المستشفيات، متهمين إيَّاه بالضلوع في المؤامرةِ والخروج في المظاهرات، وينهون حياته الجحيم بطلقةٍ في الرأس، ويرسلون لأهلِه لاستلامه، ويوصونهم بالتهديد والوعيد بدفن (هذا الرمَّة) في هدوء؛ لذا فإنه - عمليًّا - حُرِّم على أهل (حمص) ولأجلٍ غير مسمَّى كل أنواع الإصابات المنزلية وإصابات العمل، القائد الطبيب، القائد الطبيب يتصيَّد شبيحتُه النَّاسَ من أقسام الطوارئ، سطعتْ هذه الأفكارُ فجأةً في رأسِها الذي تعتَّم، فأصابها الرعب، كما يصيب أرنبًا غائبًا في الحشائشِ ليلاً إذا ألقِي عليه الضوء الباهر فجأةً، تهزُّ رأسَها حتى تنفض عنه هذه الأفكار المخيفة، وأخذت تقول: لا، لا، لا، تتبرَّأ من هذه الأفكارِ التي تجدِّف في حق بشَّار، سوريةٌ صالحةٌ!
تحت ضغط شعورٍ أموميٍّ عارمٍ، قررتْ أن تطردَ كلَّ أنواع الرهاب التي تسكنُ أعماقها كقبيلةٍ من الشياطين، وتخرج به للمستشفى لتطمئنَّ عليه، ترتدي ثوبًا زهريًّا، عليه (سبونج بوب) وآثار الملوخية، وجوربين لهما (دانتيل)، تسدلُ شعرَها، ترتسم على وجهِها ابتسامةٌ جوفاء، تأخذه إلى غرفةِ مكتبها التي صارت فوضويَّةً، تحاول أن تغيرَ لملك المغول ملابسَه، إلاَّ أنه أصرَّ على ملابسِه الملطَّخة بالدم، تحاول معه مرَّةً أخرى، تغريه بأجمل ملابسه، ولا فائدة، مصرٌّ تمامًا على ملابسه الملطَّخة، وفيما كانت تلفُّ حول نفسها وتضع يدَها على شعرها متوترةً، بدأ ينشط، وذهب صوتُ حشرجته، لرؤيتِه الورق، فخلع حذاءه، ونزع الرأسَ الكرويَّ للصولجان عن عصا الصولجان، ثم أخذ يمتِّع نفسَه بتمزيقِ وتكوير بعض أوراقها، وهي لم تعبأ؛ لأنه لم يعد لأوراقِها عندها قيمةٌ كما كان الأمرُ من قبل، ففي الفترة الأخيرة كانت تقرأ الصفحةَ الواحدة من المرجعِ العلميِّ عدة مرَّات ولا تفهم منها شيئًا، ترك بعضَ الكرات الورقيَّة والأوراق الممزَّقة على أرضِ الغرفة، ووضع اثنتين من الكراتِ في حذائه، واثنتين في جيبيه، وواحدةً في تجويف رأس الصولجان، تقيمه من الأرض، ترفع الكرتين المحشورتين في حذائه وتنعله إيَّاه، يثبِّت لنفسه الإكليل جيِّدًا، يقبض على عصا صولجانه، تحمل رأسَ الصولجان من الأرض وتثبِّتها له في العصا، تضع في يده الأخرى صورةً قماشيةً لعلها تحميهما وهما يشقَّان طريقهما في مدينة الموت، صورة للقائدِ الضرورة، الطبيب الذي يتصيَّد شبيحته الناس من...، لا، لا، لا.
حملته في حضنِها، وخرجا للضوءِ والهواء، والقمر المختنق، تمشي بخطى ثقيلةٍ جدًّا، وقلبها يكاد يقفزُ من صدرِها، وأنفاسها شديدة الاضطراب، ومن انهيار أعصابها، أنزلته وجعلته يمشي على ساقيه، تمضي وهي تشعرُ بدوارٍ جامحٍ، يتخلَّلها النسيمُ الجريح، والضوء الشاحب، والإعياء، والخزي المشوَّش، تتذكَّر جلسةَ العصرية الأخيرة، والأم نور تبدو قلقةً مجهدةً زائغة العين، أخذتْ أمر (أسامة) مأخذ الجدِّ، فقد نصحها كثيرٌ من نسوةِ الجيران بأن تكبحَ جموحَه، وأن تحبسَه عند أخواله إن لزم الأمر، وإلاَّ فإنه مقتولٌ أو معتقل؛ هذا، وفي اتصاله الأخير، أقسم ولدي النقيب... (أزيز المروحية يغطِّي صوتها) ماذا؟ أقول: أقسم ولدي النقيبُ ألاَّ يطلق الرصاصَ على السوريين ولو عذَّبوه، يوشك أن يتركَ الخدمة، ولا يغمس لقمتَه في دمِ أهله، كفاه الله شرَّ المخبوء، و... صوت القصف يصعقُ الحضور، يا للرعب، يا للغبار، تسقطُ الآنسة مغشيًّا عليها رويدًا رويدًا بين السُّعال.
تكاد تسقطُ على الأرض، فيما الولد يسير في نشاطٍ، وقد التهَى عن صورةِ (بشار) في يدِه فسقطتْ منه ولم يلتهِ عن صولجانه، كل ما كانت تبعد عنه صار قريبًا جدًّا، على بعد صدمةٍ، وحواسها التي أخمدتها تتَّقد، وعقلها يتململ، ينتفض، تعتريها الهواجس، من روح الشهيد، من أنين الحبيس، من ألم الثكلَى، كل شيءٍ يبوحُ لها، ويضع عليها وِزرَ المعرفة، عزيف الرملِ على الرصيف الحزين، حدَّثها عن زوابع المروحية المجرمة، "جويل" الأوراق الملقية في الطريق، حكَى عن لحم قتيلين مستورٍ في ورقِ الصحف، وها قد وصلا إلى هناك، عند البيت، في الطابقِ الأرضيِّ منه كانت تُستضاف، النور الآن مطفأ، والستائر مرخاةٌ، والشجرة التي تحت الشباك عطشَى، وباب البيت موصدٌ بالجنزير، وفي أيَّار (مايو) الماضي اقتحموا على النقيبِ غرفتَه، وأفزعوه في نومِه، هيا، هيا، يبلع ريقَه بصعوبةٍ وهو مذهولٌ، يجرُّونه بملابس نومه، يضربونه بقبضاتِهم الغليظة وظهور بنادقهم، حتى غطَّى الدم وجهَه، الأنات عالقةٌ عند البابِ الموصد، ودعاء المنشقِّ الذي تشبَّث بالبابِ إلى أن طرحوه في عربةِ الأمن القاتمة، يا رب، يا رب، يا رب، صوته المضطر يتلو ما سطروه في صحائفِ الرعب ها هنا، بعد أعوذ بالله من شرِّ المداهمة، يا لعذابات السوريين، يا شح الأطعمة، الثأر والملحمة، و...، (تهزُّ رأسها وتجهش في البكاء)، اسكتْ، اسكتْ، فسكتَ في أعماقِها صوتُ النقيب المعلَّق من يديه في القبوِ الرَّهيب، ولم يسكت أنينُه العالق عند البابِ الموصد.
ما أن هربتْ من شبحِ النقيب المعذَّب، الذي يحكُّ جروحَه المتقرِّحة في الجدارِ الحجريِّ، حتى تراءتْ خيالاتٌ ليومٍ أسود آخر للأسرة المكروبة، يومٌ سماؤه كالزجاج بغير سحابةٍ، والأسفلت رصاصٌ مصهورٌ، والشبِّيح يطلقُ النَّارَ على (أسامة) الابن القائد الثوريِّ، وهو ممدَّدٌ على الطريقِ فوق دمائه الحارَّة، ما زال حيًّا، فمه الذي يدلقُ الدماء يضطرب، أمُّه المسكينة تقتحمُ المطرَ الرصاصَ، تسحبه من يدِه من المرمَى القاتل باتجاه تلك الزاوية الخطرة، تحاول بكلِّ ما أُوتيتْ من قوةٍ وهي تعضُّ شفتَها، تسقط بجانبِه في الطريق، يموت قبلها، تلتصق به، تتشممه وهي منفطرةٌ في بكاءٍ صامتٍ، يظهر من الجانبِ الآخر طفلُها المسكين أحمد الذي تبقَّى لها، يبكي ويقترب، تؤشِّر الخالة نور له بيدها وتتوسَّل "لا تجي لهون يا أُمِّي، أنا راح ازحف لعندك"، وهي في زحفها إليه حتى تجنِّبه الموت، التفت الشبِّيح الذي أولاها ظهرَه ليمضي، فعرف أنها ما زالت حيةً، فأمطرها بالرصاص، حتى سكن كلُّ شيءٍ فيها، إلاَّ خصلة شعرها الفضيَّة، فانفطر أحمد في البكاءِ وهو يشعر بضياعٍ عارمٍ، يكاد يرمي بنفسِه إليهما يائسًا، وظلَّ هكذا واقفًا يبكي وحده تحت شمس الظهيرة، حتى بعد أن مضَى الشبِّيح شامخًا، وجفَّتْ دماؤهما أمامه على الأسفلت تحت ورق الصحف، وهام من بعدها على وجهه، يبيتُ الآن وحده مذعورًا في البساتين.
فاجأها ملكُ المغول بأن انحرفَ إلى الباب الذي يعرفه، يدقُّ بكفه الرقيقة على الباب، ينادي حبيبتَه الطيِّبة بغير لقبٍ: نور، نور، نور، بصوتٍ فيه يُتمٌ عتيقٌ، ولم تفتح له (نور) بابَها الموصد، فجلس على العتبة يستريح، تنادي به المربِّية كي يقوم ويبتعد، بأصواتٍ مرعبةٍ كأصوات ممسوسٍ قد أضنته الرقية، ولا مجيب، تحصيه بالحصَى ولا فائدة، تعطيه ظهرها وتمضي بعيدًا قليلاً وهي شبه منهارةٍ، حتى يخاف ويتبعها، فتلهَّى بأن أخرج من جيبيه الكرَتين الورقيَّتين ووضعهما أمامه، فذهبتا بعيدًا عنه مع الهواء، فنزع الرأسَ الكرويَّ للصولجان، وأخرج منه الورقة المكوَّرة، وأخذ يلعبُ بها، ولمـَّا فطن إلى ما قد يفعله الهواء بكرته الأخيرة، مرَّرها من تحتِ الباب، وتلك الورقة المكوَّرة هي الخطاب الأخير الذي وجدته في صندوقِ بريد الدار يوم أن عادتْ من زيارتِها الأخيرة للخالة نور، تلك الزيارة التي قصفت في إبَّانها المروحيَّةُ الطابقَ العلويَّ فأغمي عليها، أفاقتْ وعادت جريًا، وبعد أن قرأته نامتْ ليومين كاملين، ثم أفاقتْ كسولةً، وبدأتْ تنسحب إلى البله، وبعد أن مرَّر الخطاب المكوَّر، ثبَّت رأسَ الصولجان الكرويَّ مرةً أخرَى بعصا الصولجان كما كانت، وشرع في اللَّحاقِ بالكرتين اللتين يلعب بهما الهواء أمامه، فصاحتْ به من هناك صيحةً أفزعته، فهرول إليها نشيطًا سليم الساقين وتعلَّق بيدها، ويمضيان معًا على الطَّريق، في صمتٍ طويل، إلى أن ظهر المستشفى هناك بعيدًا وبوابة الطوارئ، يمرَّان على نقطةِ التفتيش، ولا أحد يستوقفهما، وعيون الشبيحة تزدريهما، يتندَّرون من هذه الحفلةِ التنكرية التي عاد منها هذا الصبيُّ المغوليُّ المتوَّج وتلك الفتاة البلهاء الملطَّخة الثوب بالملوخية، وكلمات السخرية تخترقها، وترجُّ قلبها رجًّا، وهي بين العقل والبلاهة، تذلها الذلَّ الذي تريده وتمنحها الأمان، والكرة الورقيَّة تلعب بها الريحُ في مدخل البيت المكشوف من حائطٍ إلى حائطٍ، إلى أن يأتي يوم ينزع الله فيه الملك ممن يشاء، وينبتُ يقطينًا على من نجَّاهم من ظُلَم الهلاك، ويأوي الذي هربوا إلى البساتين إلى فُرُشهم الدافئة، ويعود الذين حملوا الصحون تحت آباطهم للعيش الكريم، ويُقرأ الخطاب الذي أتاها من أبيها، الذي يردُّ من بعد التحية، على ما باحتْ إليه به بحسن نيَّةٍ في رسالةٍ صريحةٍ مستشيرةٍ لم تستر فيها شيئًا، بأن أعرضي تمامًا عن هذه العائلةِ الحمصية الخائنة وعريسها الخاسر، قد قمتُ باللازم، وسيلقون قريبًا جزاءَ ما يأتمرون؛ (الله، سوريا، بشار وبس).

محمد بن سعد
May 7th, 2012, 21:23
أهل باستاذنا الأديب الفاضل

محمود توغيق

ومرحبا بعودتكم إلى منتدياتكم

درة المجالس العربية اسعودية

محمود توفيق
May 20th, 2012, 15:15
أهل باستاذنا الأديب الفاضل

محمود توغيق

ومرحبا بعودتكم إلى منتدياتكم

درة المجالس العربية اسعودية

شكرا سعادة الدكتور محمد لاستقبالك الكريم

حفظكم الله ورعاكم