المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المشوّه



محمود توفيق
August 27th, 2008, 13:57
تعبت.. تعبت.. تعبت

ليس لدي ذاكرةٌ قديمة تحوي ما قبل انحشاري هاهنا في هذه الحفرة، كل ما أعرفه أنني لم أشعر بنفسي إلا وأنا هنا وحدي في ظلامها، وهذا هو مبدأ الحال.. أنا هنا لأنني هنا، أما كيف وصلت إلى هنا فسؤال لا أملك إجابته.

ساكن في حفرة ضيقة كامنة مستترة، أتحسس جوانبها، أتقلب فيها بصعوبة، وقد بلغ بي الوهنُ مداه. كثيرًا ما شعرت أنني اعتدت ظلامها الدامس ومناخها ورطوبتها، وقبلت هذا الضيق، أنام وأصحو عليه، وحده يحتويني، شيئًا فشيئًا حتى وجدتني ولم يعد لديّ فرق بين أن ينتشلوني منها أو أمكث منغرسًا فيها للأبد. بل أحيانًا وعلى عكس كل الحالمين بالخروج، يغمرني الخوف من أن تقتلني معدات من سينصتون إليّ ويجدُّون في انتشالي، لذا أبدو غالباً مستسلمًا لفكرة المكوث هنا للأبد، فبيني وبين الدنيا الواسعة عتبة موت ناعمة أخاف أن أنزلق إليها.

هذا لا يمنع أنه تتحرك داخلي الرغبة في الخروج عندما أنتبه في وهني وإعيائي لجلبة الأحرار! كم أغار من قهقهة وضجة المحتفلين بالحياة خارج الحفرة، أنصت لوقع الأقدام المارة التي تدك الأرض حولي، ولا يتلفت أصحابها إلى المسكين المنغرس في الظلام لا يقوى على أن يخلِّص نفسه ولا يقدر على أن يسمعهم صوته. أودّ ساعتها لو أصرخ فيهم جميعًا محتجًّا كي يلتفتوا إليّ ويخرجوني من هنا، لعلّي أحرك أعضائي مثلهم، وأتلوى، وأتدحرج، وأنعم بالأنس والهواء الطلق مثلهم، وأتنفس مثلهم، وأنطلق في الدروب مثلهم.

غير أن هذا ليس كل شيء، ففوق كل هذا، أحيانًا ما أضجّ بالحفرة، وأود أن أنعتق هاربًا، لأخلص من هذه الأدخنة الكريهة، التي تتسلل إليّ من الدنيا الواسعة لتجثم على صدري كل حين في ضيقي (يسعل بشدّة).

تعبت.. تعبت.. تعبت

ها قد جاءت على الذِّكر!.. بسحاباتها البغيضة الكئيبة تتسرب الآن إليّ مرَّة أخرى، يا لعذابي وضعفي. ماذا أصف؟!

آه.. آه.. آه

لا، هذه المرَّة زيادة!

رباه.. رباه.. جسدي.. جسدي ينقبض

(التصَق بالجدران كأنها تجذبه، تغير لونه، وازرقّ وجهه، سعل بشدة، حتى كأن صدره يتمزّق).
اليوم، فاض الكيل، فالخروج حيًّا أو ميتًا أفضل من بقائي هنا، أشعر هذه المرّة بأني على وشك الاستسلام، وأني سأموت قبل انقضاء المدة المقررة لحبسي هنا، وخائف حتى من التفكير فيما يدور بذهني، ويا لرعبي مما يدور بذهني: فأنا أشعر بأن تلك الأدخنة العجيبة قد خمشت وجهي، وشقَّت شفتي.

وأنا الآن غير قادر حتى على تحسس شيء مني. ولا نور هنا ولا مرآة؛ ولو كانا هاهنا ما نظرت؛ أنا أفضِّل أن لا أعرف؛ ليتني لا أعرف للأبد. هذه لا يمكن أن تكون أوهامًا، أشعر أنها شوهتني.

ها هو ذا صوتها يصلني، أسمعها الآن، إنها تضحك بالخارج، السيدة تضحك ومعها الصديقات، وأنا هنا في حزني.. فمن يبالي بي؟!

السيدة تضحك بالخارج، في الهواء الطلق؛ وهذا الصوت الأنثوي القريب، يتغلغل إليّ بالداخل!.. وما أشد حبي له وحنقي عليه، ولطالما ضحكت لمّا سمعت ضحكاتها، ولطالما بكيت من أجلها إذا غضبت بالخارج وعلا صوتها، ولطالما تخيلت لها هيئةً ما ترضيني، ثم أبدلها بأخرى أحسن منها. غير أني في لحظات النقمة إيّاها، كنت أعطيها هيئة الساحرات ونساء الجن الشريرات بضحكاتهن المخيفة!

((متى أراكِ في النور؟!))

تلك مناجاتي لكِ في لحظات الوجد والعرفان..

((متى أراكِ في النور؟!))

مناجاتي إليكِ الآن وأنا في قمة نقمتي وحنقي. في قلبي سواد منك لا تدرينه!، تبدين أمامي كجنيّة كريهة، أود لو أنشب أظفاري في وجهك.

لم أعد قادرًا على أن أخدع نفسي، وأعفيكِ من مسؤولية هذا الذي يتسرب إليّ، يا من كنت أشعر بحنانها حتى أذوب فيها حبًّا، يا من لا أعرف سر تلذذها باللعب بمشاعري، بين نفحات ولفحات. وكلّي خِزيٌ من نفسي؛ لأني أحبك برغم عذابي، وإن طالت أظفاري وجهَك فلن أستطيع أن أخمش وجهك..

(غفا لساعة. ثم فجأة، استيقظ من غفوة، جلبة.. جلبة، حركة مضطربة، وهرولة، والمرأة تصرخ، بأعلى صوت، ومعاول تضرب حول الحفرة، ودمدمة، وكأنما جماعة من الناس قد حاصروا المرأة وتدافعوا إليها، فانكمشت مذعورة، يأمرونها فتطيع وينتهرونها فتخسأ.)
أكلُّ هذا الضعف بك وقد كنت أظنك لا تهزمين؟!
(سجين الحفرة واهنٌ جدًّا، ومرتبك تمامًا، لا يعرف أيشمت فيها أم يتعاطف معها، ولكنه انشغل بنفسه. الحفرة تتزلزل، يتشبث بالجوانب المتغضنة، ينقبض، تنفلت يداه المتمسِّكتان بالنتوءات، ينقلب رغمًا عنه، يرتج مع انقباضات وانبساطات عنيفة، يتلطخ تمامًا بالدم، وحبال رقيقة تتقطع حوله كأنما ينفذ من شبكة، تتحشرج أنفاسه، يشرق، ألقته الحفرة، يصرخ باكيًا، حملوه من كاحِلَيهِ مقلوبًا، مولوداً مشَّوهًا من رحم امرأة مدخّنةٍ... وما لبث أن مات).

نجم سهيل
August 27th, 2008, 15:15
(سجين الحفرة واهنٌ جدًّا، ومرتبك تمامًا، لا يعرف أيشمت فيها أم يتعاطف معها، ولكنه انشغل بنفسه. الحفرة تتزلزل، يتشبث بالجوانب المتغضنة، ينقبض، تنفلت يداه المتمسِّكتان بالنتوءات، ينقلب رغمًا عنه، يرتج مع انقباضات وانبساطات عنيفة، يتلطخ تمامًا بالدم، وحبال رقيقة تتقطع حوله كأنما ينفذ من شبكة، تتحشرج أنفاسه، يشرق، ألقته الحفرة، يصرخ باكيًا، حملوه من كاحِلَيهِ مقلوبًا، مولوداً مشَّوهًا من رحم امرأة مدخّنةٍ... وما لبث أن مات).



ما أروع ماصورته والله لقد تأثرت بالنهاية المأساوية وكأنني أشاهد فصولها حية أمام عيني والحشرجة غشت صدري تأثرا بهذا فلله درك ماأروعك يا أستاذ محمود وللأمانة
وأثناء قرائتي وقبل أن أصل إلى النهاية كانت هناك كلمتان تستحثاني على نطقهما
(( هذا عويل ميت حي ))
ولكنه بكل أسى مات مسموما مشوها وهو يخرج من حفرته

محمود توفيق
August 30th, 2008, 22:57
ما أروع ماصورته والله لقد تأثرت بالنهاية المأساوية وكأنني أشاهد فصولها حية أمام عيني والحشرجة غشت صدري تأثرا بهذا فلله درك ماأروعك يا أستاذ محمود وللأمانة
وأثناء قرائتي وقبل أن أصل إلى النهاية كانت هناك كلمتان تستحثاني على نطقهما
(( هذا عويل ميت حي ))
ولكنه بكل أسى مات مسموما مشوها وهو يخرج من حفرته

سلامتك من الحشرجة
بطل القصة الضعيف هو ميت حي بالفعل
مأساة بشرية رهيبة أن يشوّه طفل ويموت لأنه امه كانت تدخّن في حمله .. مأساة !!

تحياتي .. وكل عام وأنت بخير عم نجم سهيل